في صمت, يليق بجلال ما قدموه إلي الثقافة المصرية رحلوا, لكن ما يبعث علي العزاء أن هؤلاء عاشوا حياتهم يبشرون بقيم الحق والعدل والجمال, ورأوا جموع الشباب تقود حركة التاريخ في ميدان التحرير, قبل رحيلهم بعامين. إبراهيم أصلان, محمد البساطي, حلمي سالم, ثروت عكاشة, ميلاد حنا, أحمد زرزور, هؤلاء آثروا الرحيل عنا, وتركوا لنا الحرب علي القبح الذي غزا وسط البلد تلك المنطقة التي لا تمنح أسرارها بسهولة للقادمين من البعيد, الآن وسط البلد رهينة في أيدي الباعة الجائلين, يعيثون فيها صياحا وضجيجا. من هنا كان يعبر الطريق إبراهيم أصلان بصحبة مالك الحزين وعصافير النيل في اتجاه وردية ليل وحكايات شارع فضل الله وخلوة الغلبان. إبراهيم أصلان الذي لم تغادر الدهشة ملامح وجهه, حتي وإن كان ما يسمعه من محدثه عاديا جدا, فاجأ الجميع بالرحيل في7 يناير من عامنا الحزين, كان ابن مدينة( إمبابة والكيت كات) حتي وإن انتمي بأصوله إلي الريف( محافظة الغربية) وكان يشبه النيل, الذي رعي طفولته, في وداعته وهدوئه وعمقه. علي غير ما يفعل المبدعون كان أصلان لا يترك شخصيات رواياته يواجهون مصائرهم بعيدا عن يديه, سيحدثك كيف رأي بعضهم بعد سنوات, وماذا فعل الزمن بهم, وهؤلاء هم من احتمي بهم حين أعلن المتطرفون حربهم علي الإبداع. كان أصلان قد نشر رواية حيدر حيدر وليمة لأعشاب البحر في سلسلة آفاق الكتابة التي كان يترأس تحريرها, وقامت الدنيا ولم تقعد, اشتعلت المظاهرات, ووجهت صحف التطرف رذاذ سبابها في كل اتجاه فطال المبدع الكبير الذي اختار الهدوء جانبا طوال حياته, ليجد نفسه مطلوبا للتحقيق أمام النائب العام بسبب رواية لم يكتبها. كان أصلان نموذجا للعبقرية المصرية, فالصبي الصغير الذي لم يتلق تعليما منتظما, والتحق في بداية حياته بالعمل في هيئة البريد, يجد قصصه منشورة في مجلة المجلة علي يدي العظيم يحيي حقي وتنشر مجموعته القصصية الأولي بحيرة المساء ليضع اسمه في قائمة أبرز أدباء جيل الستينيات. ومثلما اختار أصلان الرحيل في أوائل العام المنصرم, قرر الروائي محمد البساطي(141937 يوليو2012) أحد أبناء جيل الستينيات أيضا أن يودعنا في صمت, يحمل شبهة الإدانة للجميع, فبعد معاناة مع سرطان الكبد رحل البساطي بعد أن قدم لنا درسا في التعفف, فقد رفض في نبل نادر أن تتحمل وزارة الثقافة تكاليف علاجه. كان يستمد إحساسه العالي بإنسانيته وكرامته من قرية تطل علي بحيرة المنزلة بالدقهلية( الجمالية) اختصها بروايته البديعة صخب البحيرة كانت هذه الرواية بجمالها تختصر عليك الطريق كي تعبر إلي عالم البساطي برحابته التي تسع المهمشين في أرياف مصر وضواحي مدنها, ففي هذه الأماكن يعيش البشر الحقيقيون, وهي المنطقة التي قليلا ما غادرها إلي المدينة, كما فعل في رواية ليال أخري. وكان علي البساطي أن يواجه أزمة عاصفة, هو المعتزل للمعارك الصغيرة, فقد دفعته يد الله في التجربة حين كان رئيسا لتحرير سلسلة أصوات, وجاءت الطعنة من الداخل الثقافي أو الجماعة الثقافية, فقدر له أن يخوض معركة حرية الإبداع فيما عرف بأزمة الروايات الثلاث, فقد قرر وزير الثقافة فاروق حسني أن يقوم بخطوة استباقية وصادر روايات ياسر شعبان ومحمود حامد وتوفيق عبد الرحمن, الصادرة عن أصوات وتصدي له البساطي, وهو علي استعداد لأن يدفع الثمن الذي يدفعه من يقول لا, وقد حرم بالفعل من جوائز الدولة أو التكريم اللائق به. لم يكن يعنيه سوي أن يقدم شيئا لائقا بمكانته كمبدع, لذا رفض نشر مجموعة علاء الأسواني القصصية الأولي, متحملا هجمات النيران الصديقة وغير الصديقة, وكان ذلك قبل صعود نجم الأسواني ب عمارة يعقوبيان. وفي يوليو كانت ضربة الموت موجعة, حين اختارت حلمي سالم رفيقا في درب لا يعود منه الأحياء, حلمي سالم(281951 يوليو2012) أبهي شعراء جيله( السبعينيات) ينجو من الموت أثناء حصار بيروت في الثمانينيات, ليكتب لنا سيرة بيروت وينجو من جلطة المخ ليكتب لنا مدائح جلطة المخ حلمي سالم ابن الحياة والبهجة يفتك به السرطان, ذلك اللص الذي تخفي في رئتيه, وقاومه بالشعر أيضا, لكن تشخيصا خاطئا أودي بحياته, في معركة غير متكافئة مع الإهمال. لقد سرق حلمي سالم منا في غفلة من محبيه, ألم يصمد في وجه الردة الثقافية في السبعينيات, حين بادر هو ورفاقه بتأسيس جماعة إضاءة77 ؟ ألم يواجه التكفيريين بشجاعة حين أطل عليهم من شرفة ليلي مراد فأشهروا سيف غلظتهم في وجهه ؟ حتي ان رفاقه تخلوا عنه وكشفوا موضعا لطعنة يسددها خصومه إليه, لكنه آثر الشعر الذي كان يذهب إليه أينما كان. في آخر أيامه غادر حلمي سالم المستشفي علي مسئوليته الشخصية, لأنه لا يصح أن يخلف وعدا لأصدقائه, يومها قرأ من ديوانيه غير المنشورين,, كان قادرا علي تحويل الوجع إلي حالة شعرية, يضيفها إلي منجزه: سكندريا يكون الألم, الأبيض المتوسط, دهاليزي والصيف ذو الوطء, فقه اللذة وغيرها من دراسات نقدية. وإذا كان البحث عن الشعر هو سلاح حلمي سالم في مواجهة الموت كان التسامح هو المدخل الأول والأخير للتعرف إلي الشاعر أحمد زرزور(20 فبراير31949 سبتمبر2012) الذي انغمس في سنواته الأخيرة في الكتابة للطفل, كامتداد لتجربته في مجلة قطر الندي حين ترأس تحريرها, وكان يعتبرها مشروع عمره, وكان يرفض الفصل بين السياسي والجمالي, وهو ما تجلي في دواوينه: الدخول إلي مدائن النعاس, جنون الورد, حرير الوحشة, هكذا تترمل الامبراطوريات, شريعة الأعزل, خرافة مفتوحة. وضمن من فضلوا الغياب هذا العام يأتي ثروت عكاشة(271921 فبراير2012) آخر الكتاب الموسوعيين والبناء الأعظم في تاريخ الثقافة المصرية, ذلك الرجل الذي يشبه زمن الستينيات, زمن الصعود المصري علي أكتاف رجال سعوا لبناء الإنسان كأولوية أولي. كان عكاشة يمثل نمطا فريدا من المثقفين, فابن تنظيم الضباط الأحرار حين خلع زيه العسكري, وتولي مسئولية الثقافة, شهدت حقبة الستينيات علي يديه نهضة مسرحية لم تتكرر في تاريخنا وأسس أكاديمية الفنون والثقافة الجماهيرية. عكاشة بشهادة الراحل عبد العظيم أنيس مثقف من النوع النادر بين العسكريين, انفتح علي الثقافة الرفيعة في شبابه الباكر وكان في ذاته مشروعا ثقافيا كبيرا تتضح ملامحه في موسوعة الفنون بأجزائها الثمانية عشر وبترجماته للشاعر الروماني أوفيد وروائع جبران خليل جبران, ويكفيه أن كان يقف وراء إنقاذ آثار النوبة من الغرق. بين عامي1984 و1987 تولي المفكر المصري ميلاد حنا رئاسة لجنة الإسكان بالبرلمان, كان يراهن علي إمكانية تغيير المؤسسة الحاكمة من الداخل, ومن أجل هذا ترك حزب التجمع, وهو أحد مؤسسيه, وبعد أن طالته اعتقالات سبتمبر1981 كانت الوحدة الوطنية هي شغله الشاغل, وكان دائم التصريح بأن الكنيسة القبطية ما هي إلا مؤسسة دينية يذهب إليها الأقباط للصلاة وينبغي ألا يكون لها دور سياسي. في صمت مخز رحل ميلاد حنا, وغابت المؤسسة الرسمية عن جنازته, الأمر الذي دفع رفعت السعيد لأن يقول إن الرئاسة لا تستحق أن تنال شرف حضور جنازته.