أتي علي مصر حين من الدهر كانت قوتها الناعمة الأزهر- الكتاب- السينما.. وغيرها في أوجها,وفرضت مصر بتلك القوة الناعمة القادرة علي الاستقطاب والإقناع سيطرتها ونفوذها علي المنطقة باسرها طوعا وكرها. فماذا عن القوة الناعمة المصرية الآن.. هل غابت؟, وإذا كان الجواب نعم,فكيف نستردها؟ سؤالان نطرحهما في هذا التحقيق. في البداية يري المفكر الكبير د. جلال أمين أن القوة الناعمة لا يمكن أن تغيب, لأنها جزء من صميم المجتمع,فالمسرح مثلا في مصر موجود دائما,ولكن إما أن يكون لديك يوسف وهبي ونجيب الريحاني,وإما أن يكون لديك مسرح يلبي رغبات السياح. والموسيقي موجودة دائما, ولكنها إما أن تكون موسيقي زكريا أحمد والسنباطي, أو أن تكون موسيقي هابطة لا تصلح إلا للرقص البدائي جدا. وبرأي جلال أمين فإن كل القوة الناعمة في مصر أصابها تراجع وترد, والأسباب ترجع إلي التوترات الاجتماعية الناتجة عن سوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية,مؤكدا أنه إذا أصلحنا الاقتصاد والسياسة فسينصلح كل شيء: الفكر والعلاقات الاجتماعية والقوة الناعمة. أما المفكر الاسلامي د. محمد عمارة فيري أن الأزهر جزء من المؤسسات التي تراجعت جميعا, مثل الجامعات والصحف وغيرهما, وكان من الطبيعي أن يتراجع الأزهر لأنه جزء من هذه المنظومة. وعن كيفية إحياء دور الأزهر يري عمارة أهمية الاستقلال المالي لتلك المؤسسة, ولن يتحقق الاستقلال المالي إلا بعودة أوقاف الأزهر, وإيجاد أوقاف من جديد تحقق استقلالا ماليا للأزهر, وينبه عمارة إلي أنه ليس معني استقلال الأزهر أن يناطح الحكومات, وإنما أن يكون لديه استقلال في القرار العلمي والقرار الديني والرأي. ويواصل د. عمارة: الأزهر اهتم بالكم أكثر من الكيف, ويقترح أن يكون في المعاهد الأزهرية تشعيب منذ أولي إعدادي, أي أن يكون هناك شعبة شرعية وشعبة مدنية( طب- هندسة- إدارة.. الخ). وإذا حدث هذا في ظل استقلال الأزهر, فستفتح أبواب التجديد والاجتهاد والشجاعة الفكرية. وعلي الجانب الآخر يري د. محمود عزب مستشار شيخ الأزهر أن الأزهر الشريف موجود وبقوة منذ عامين, ويرفض الحديث عن أي غياب أو تراجع لدوره الآن.. ويطالب الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي الأزهر الشريف بألا ينعزل, و أن يقدم أجوبة مقنعة للأسئلة التي تشغل الناس, ليس فقط للمسلمين, بل البشر جميعا, ويؤكد أن الفكر الإسلامي عليه أن يستعيد حيويته وألا يقصر في تقديم إجابات جديدة لقضايا العصر الحديث, ويتساءل: ماذا في الفكر الإسلامي الآن مقارنة بالفكر الذي قدمه أمثال: محمد عبده والطهطاوي والأفغاني وغيرهم ؟ ويؤكد الناقد الكبير د. عبد المنعم تليمة أن الأزهر هو المرجع الأعلي للمسلمين الذين يمثلون ربع البشرية وهو وجهة لاهتمام معظم الدوائر الاكاديمية العالمية. وعن كيفية استعادة الدور الثقافي للأزهر يري تليمة أنه لا مفر من ثلاثة أمور:أولها مؤسسي, وهو أن تقوم الهياكل الأزهرية ابتداء من مجالس المعاهد والكليات وانتهاء بكرسي الامام الاكبر علي الانتخاب الحر المباشر من رجالات الأزهر وعلمائه انفسهم. الأمر الثاني: الوصول إلي صيغة توافقية تفتح السبيل أمام الأزهر لقيادة عملية التقريب بين المذاهب الإسلامية وتحقق المصالحة بينها. الأمر الثالث يكمن في ضرورة الوصول إلي أبنية وهياكل وأوعية فكرية وثقافية وعلمية تتيح للأزهر أن يكون طرفا اساسيا في حوار الثقافات والحضارات.. صناعة السينما: و يؤكد المخرج الكبير داود عبد السيد ضرورة وجود حرية كاملة وديمقراطية كاملة, وألا توجد قيود باسم الدين, ولا موانع باسم السياسة. وعن دور الدولة في استعادة قوة مصر الناعمة يري عبد السيد أن علي المجتمع المدني والدولة تشجيع الثقافة ودعمها وهو ما يكاد يكون غائبا. ويجزم المخرج الكبير بأنه حتي في حالات الضعف, فقوة مصر الناعمة واضحة, وقادرة علي النفاذ إلي المستوي الإقليمي. ولن يوقفها أحد كائنا من كان. ويؤكد عبد السيد ان صناعة السينما إقليميا لا توجد إلا في مصر, وان مصنع الثقافة هو مصر ولو كره المتربصون. نشر الكتب: و يري الناشر محمد هاشم ان اكبر تهديد لقوة مصر الناعمة يأتي من الخطاب المتطرف, مؤكدا أن القوة الناعمة لمصر ستستمر, ويبرهن علي ذلك بأن من حمل لواء الثورة ودافع عنها وغضب من أجلها هم المثقفون. ويؤكد هاشم أنه لن يستطيع احد تفكيك قوة مصر الناعمة مشيرا إلي ان ضعف القوة الشرائية أثر سلبا علي شراء الكتاب, اما الإنتاج الثقافي لمصر فلن يتوقف. أما الناشر احمد علي حسن فيري ان مصر حاضرة في كل المجالات ولا يزال لديها وجود وإن ظهر لها منافسون في مجال النشر. وينبه أحمد حسن علي أن صناعة الكتاب تعتمد علي: المال والفكر, مشيرا إلي أن قوة مصر الناعمة في الكتاب تراجعت لأسباب منها شدة الفقر, وعدم عناية الدولة بتنمية صناعة الكتاب, وانتشار الفساد الذي ضرب كل شيء. ويشير إلي أن المنافسة شرسة, إلا أنه لا يتوقع أن تسحب السجادة من تحت اقدام المصريين موضحا أن العمل في صناعة الكتاب يسير بقوة الدفع الذاتي, مطالبا الدولة بأن يكون لديها وعي بأهمية صناعة الكتاب, وتشجع الناشرين. أما الباحث نبيل عبد الفتاح مدير مركز الاهرام للدراسات الاجتماعية والتاريخية فيرصد أسباب تآكل تأثير الدور الثقافي المصري إقليميا ومنها: أن ثقافة النفط أثرت علي الثقافة المصرية بما فيها الثقافة الدينية الوسطية التي تأثرت بأنماط خطابية فقهية محافظة أو متزمتة, و أيضا التنافس الحادث بين دول الاقليم العربي علي وراثة الدور الثقافي المصري لاسيما من خلال استلهام التجربة المصرية وبعض مكوناتها وبنيتها الأساسية, وبروز أدوار ثقافية في بعض دول المنطقة المغاربية لاسيما المغرب وتونس في إنتاج المعرفة, تراجع الحريات الفكرية وبروز ضغوط علي عمليات الابداع والبحث الاكاديمي. ويشير عبد الفتاح إلي أن الدور المصري وقوته الناعمة تعرض لضغوط مختلفة في اعقاب الانتفاضة الثورية في25 يناير. وبرأي مدير مركز الاهرام أن عودة الدور الاقليمي المصري تواجه عددا من الاعاقات والمشكلات في اعقاب الانتفاضة الثورية بعد25 يناير11 فبراير, حيث تحاول بعض الدول النفطية المحافظة في الاقليم أن يظل هذا الدور المصري معتقلا تحت وصاية ما. ويعدد الأسباب التي أسهمت في انسحاب وتراجع القوة الناعمة المصرية ومنها: استيعاب الملحنين والفرق الموسيقية في إطار دعم الثقافة الفلكورية الخليجية والمطربين والمطربات القادمين من هذه المنطقة, إسهام بعض القنوات الفضائية في إطار سياسة محددة- في شراء غالب ميراث السينما المصرية, وتحتكر بثه تلفازيا علي بعض قنواتها الفضائية المتخصصة, ومعه تراث بعض تراث الغناء المصري الحديث, قيام بعض الشركات بتوقيع عقود احتكار مع بعض المطربين والملحنين المصريين مقابل اجور ضخمة, تراجع الطلب علي إنتاج الدراما المصرية لصالح الدراما السورية. وينهي نبيل عبد الفتاح حديثه مؤكدا أن الدراما التركية والقنوات الفضائية التركية باللغة العربية هي احد التحديات الجديدة المواكبة لتمدد الدور الإقليمي التركي الذي يحتاج إلي قوة ناعمة تؤدي إلي تغيير في بعض التوجهات والإدراكات السلبية الشائعة مصريا وعربيا عن مرحلة الدولة العثمانية, مشيرا إلي أن الانتفاضات والعمليات الثورية وبعض نجاحاتها وبعض تعثراتها وإخفاقاتها قد لا تؤدي إلي توليد آثارها الإيجابية الفعالة في الاجل القصير أو المتوسط, وإنما تحتاج إلي مرحلة زمنية تحدث خلالها حزمة من السياسات تربط بين السياسي والثقافي والاقتصادي.