(كنت أخاف الناس جميعا قي طفولتي; وعندما شببت, كنت أكرههم وأبغض البعض منهم لدناءتهم دون أن أعرف لذلك سببا قويا!! أما الآن, فلقد أصبح كل شيء علي العكس تماما. ذلك لأنني أصبحت أشفق علي الناس, من بعد أن رق قلبي تجاههم; فأدركت أنهم جميعا ليسوا بمسئولين عن حقارتهم)!! عبارات انطلقت كدوي طلقات رصاص في أذني علي لسان أحد أبطال رائعة الروائي الروسي الكبير مكسيم جوركي بعنوان:( الأم). ..وهكذا الأدب العميق دائما سيدي, يفترش بمعانيه أعماق النفس البشرية, بعيدا عن حدود الزمان والمكان, ليرسم معالم المجتمعات الإنسانية علي لسان الأفراد; ويصهر تجاربهم سويا لعلهم يستفيدون من بعضهم بعضا. فعلا, ما ذنب الحقراء؟ لقد جاءوا إلي هذا العالم حقراء بالوراثة, إذا جاز التعبير, من بعد أن نبتوا من سلالة علي شاكلتهم, وفرض عليهم واقعهم تقاليد حقيرة, وعادات أكثر حقارة لم يكن بمقدورهم أي خيار بشأنها!! ولقد قلنا مرارا وتكرارا إن المشكلة ليست في أن تولد مريضا أو فقيرا مثلا, ولكن المشكلة هي أن تتيقن من أنك ستظل مريضا أو فقيرا دائما أبدا!! وهكذا الحال أيضا, فأن تولد حقيرا, فهذه ليست المشكلة, وإنما المصيبة هي أن تظل حقيرا, ليس لأنك حقير فعلا, وإنما لأن الناس قد صنفوك حقيرا, من قبل أن تولد أصلا!! لذا فإن مشكلة المشاكل في مجتمعنا هي في تركيز الحكومات المتعاقبة علي تقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء دائما من الناحية الاقتصادية; وهو و إن كان سعيا فاشلا لم ينجح أحد في بلوغ نتائجه حتي تاريخه, إلا أن ما لا تلتفت إليه الحكومات( كلها) بالمرة هو كيف تنتقل بالدهماء سلوكيا( وليسوا بالضرورة فقراء بالمناسبة) إلي المرتبة الأعلي!! وكما أن( تسيد) الرقي معد للآخرين مع مرور الوقت, فإن( تسيد) السلوكيات المنحطة بلا شك معد أيضا, إن لم يكن هو الأسرع في العدوي; ذلك لأن الانحطاط أسهل من الرقي( في رأيي علي الأقل); فأنت لست بحاجة إلي بذل ثمة مجهود يذكر لكي تتحول إلي واحد من الدهماء, وإنما العكس هو الصحيح!! فمن السهل جدا أن تتبول علي أقرب حائط يقابلك, إذا ما اضطرتك الحاجة إلي ذلك!! و من السهل جدا أن تسطر علي نفس الحائط أقذع الشتائم و أرخص الرسومات; و من السهل جدا ألا تستحم لمدة شهور متصلة; ومن السهل ألا تقرأ كتابا طيلة حياتك, هذا إن أقدمت علي التعلم أصلا; و من السهل أن تعترض طريق أي فتاة وتتحرش بها; و من السهل أن تتحدث دائما بصوت مرتفع; ومن السهل أن يكون حديثك كذبا; و أن تحنث اليمين إذا اضطررت; ومن السهل أن تبيع ضميرك ثم الوطن بأرخص ثمن!! إن إحساسك( الدائم) بانتمائك لما هو أدني, واستحالة خروجك مجتمعيا من هذا المأزق مادمت حيا, في مقابل رغبتك الطبيعية الفطرية في الاستمرار و التمسك بالحياة, يدفعك إلي استساغة الحقارة, ثم تبريرها, ثم وللأسف, العمل علي نشرها وتفشيها, باعتبارها هي القاعدة التي( يجب) أن تسود, وما دونها هو استثناء الاستثناء!! إن تلك الابتسامة البلهاء التي ترتسم علي وجوه الدهماء و هم يقدمون علي أفعالهم الحقيرة التي ننتقدها, هي في حقيقتها خليط من خجل فطري, وانتقام ضمني ممن هم أعلي, والتشفي بالنيل من كل المكتسبات الحضارية التي من شأنها أن تعزز شعور الأعلي بالتفوق, وشعور الأدني بالحقارة, حديقة كانت أم مبني تاريخيا أم حيا سكنيا عريقا أم حتي مجرد تمثال!! ومثلما قال مكسيم جوركي, فإنني أشفق اليوم علي هؤلاء; من بعد أن أدركت أنهم جميعا ليسوا بمسئولين عما وصل إليه حالهم!! والأمر, من قبل أن يؤوله أحد, ليس مقصودا به الفقراء أو البسطاء و لا علاقة له بذلك مطلقا; فكم من فقراء نبلاء بحق, وكم من أغنياء حقراء جدا!! المزيد من مقالات أشرف عبد المنعم