أصدر الشاعر جمال بخيت ديوانه السابع دين أبوهم وهذا الديوان إضافة إلي أعماله السابقة- ينتمي إلي ما يمكن أن نسميه ب ز س- السياق- مقولة لنين الشهيرة:( الرجل الثوري لا يخلق حالة ثورية. لكن الحالة الثورية هي التي تخلق الرجل الثوري). إن هذا الاستدعاء سوف يفض إشكالية المصطلح الذي بدأ يبزغ بعد ثورة25 يناير, وأصبح في حاجة إلي نوع من الانضباط العلمي, كما أنه سيحسم السؤال الأساسي: هل الفعل الثوري للشعر هو الذي حرض الواقع علي الثورة, أم أن العكس هو الصحيح؟ وطبقا لهذا التصور, فإننا نري أن الدواوين الخمسة الأولي للشاعر لم تصنع حالة ثورية داخل الواقع, لكنها كانت أشبه بعدد من الرسائل التي أرسلها إلي جمهور يئن تحت وطأة الغضب المكبوت, حيث الأعين- علي حد تعبير رينيه شار- كانت وحدها القادرة علي الصراخ. لقد كتب جمال بخيت في مقدمة ديوانه الجديد:(.. كل ما كتبته كان تحريضا علي الثورة, أو تبشيرا بها, أو استعجالا لها, أو علي الأقل تسجيلا مبينا ليوميات حياة المصريين في تاريخنا المعاصر). إن كل التوصيفات السابقة التي وصف بها الشاعر نتاجه الأدبي صادقة إلي حد ما, لكن التوصيف الأخير كان هو الأكثر صدقا, إذ كان تسجيلا أمينا ليوميات حياة المصريين. وعلي ذلك, فإن ديوان دين أبوهمس ذ الثورية لشعراء آخرين- أشبه بالمرآة التي يضعها الشاعر أمام قرائه لكي يروا حقيقتهم التي ربما غابت عنهم: أفواها مكممة, وعيونا مفعمة بالصراخ. إن هذا الوضع أشبه بالحل السيكولوجي التقليدي, أن يضع الطبيب مريضه في مواجهة مشكلته الباطنة, لكي يقوم المريض نفسه بالتخلص منها. وهذا بالضبط ما نعده شعرا ثوريا, فالنخبة تشير علي الكتلة, التي بيدها وحدها القرار والفعل. يتبقي لنا أن نتوقف عند نقطة الاتزان بين الفعل الثوري والفعل الجمالي, فالفعل الأول هو الذي يربط النص بالواقع, بينما الفعل الثاني هو الذي يضفي علي هذا النص بهاء الشعر, وربما كانت قصيدة مش باقي مني هي النموذج الأمثل الذي يحقق فعل الاتزان بين ما هو جمالي وما هو واقعي. وتلك هي السمة الأساسية لشعر جمال بخيت عموما. في قصيدة مش باقي مني يكلف الشاعر هذا العنوان بالقيام بدور مركزي داخل القصيدة, فالتعبير الذي يشير إليه العنوان هو عنصر مهيمن يربط بين أجزائها, إن يتصدر كل مقطع بها. وفي كل مرة يختلف الدال الشعري الذي يعقب عبارة مش باقي مني.., ليتعدد هذا الدال ما بين:( غير شوية ضي- غير شوية نبض- غير شوية لحم... الخ), إن هذا التعبير المركزي الذي يتكرر بشكل دائري, يتميز- داخل هذا التكرار- بأنه لا يتحول إلي إضافة أفقية تمثل تراكما كميا, لكنه يمثل نموا رأسيا للقصيدة, وهذه الآلية تحتاج إلي مهارة خاصة من الشاعر. فكأنه يضع الواقع في مركز دائرة ثم يقف هو علي محيطها, وكلما تحرك تغيرت زاوية رؤيته إلي هذا الواقع, مما يؤدي إلي تعدد النظرات إليه, وهذه الآلية تتطلب نسقا تكراريا لكي يتوافق الشكل مع المضمون, أو يكون تعبيرا جماليا عن موضوعه, ورغم أن الواقع يمثل نقطة الإرتكاز داخل تلك الآلية, إلا أن الفعل الجمالي لو سقط لانهار عالم القصيدة بأكمله: (مش باقي مني غير شوية لحم ف كتافي/ بلاش يتبعتروا ف البحر/ بلاش يتحرقوا ف قطر الصعيد في العيد/ بلاش لكلب الصيد تناوليهم/ خدي اللي باقي من الأمل فيهم/ وابني لي من عضمهم ف كل حارة مقام/ وزوريني مرة وحيدة لو كل ألفين عام/ ألم الجرح يتلم..) وهكذا يلملم الشاعر أشلاءه التي بعثرها الواقع في بحار الغربة أو علي قضبا من القطارات التي لا تدهس سوي فقرائها, ثم يبعثر تلك الأشلاء مرة أخري في كل أركان القصيدة, كي تقوم الحبيبة/ مصر بتجميعها من مختلف الأنحاء, لينهض الواقع بديلا عنه. ومثلما في الديانات البدائية كانت القبائل تقتل أنبياءها, لكي تخصب الأرض بدمائهم, فكأن الشاعر يخصب القصيدة بأعضائه لكي تطرح الأرض أوزيريس جديد, ينهض من بين ركام الواقع, لكي تكون قيامته بشارة بالأمل في وطن آخر أكثر بهاء, ويتسع لأحلام أبنائه. وحين يتحرك الشاعر مرة أخري علي محيط القصيدة, فإن تغير المنظور يؤدي بالضرورة- إلي تغير النظرة. لكن فعل الافتداء يظل قائما, بينما الواقع يبدو أكثر ضراوة وتدهورا في آن واحد; ما بين انحناءة الوطن والموت تحت أحجار المقطم: (مش باقي مني غير شوية ضي في عينيا/ أنا مش عايزهم لو كنت يوم ها المحك وانتي بتوطي/ في معركة ما فيهاش ولا طيارات ولا جيش وانتي ف طابور العيش/ بتبوسي غيد الزمن ينولك لقمة من حقك المشروع/ مش باقي مني غير شهقة في نفس مقطوع/ بافتح لها سكة ما بين رئة وضلوع/ ما بين غبار ودموع وأنا تحت حجر المقطم في الدويقة باموت.) هكذا يتأكد لنا أن القصيدة لم تكن فعلا تحريضيا بشكل مباشر, بقدر ما كانت محاولة من الشاعر لرسم صورة للواقع المتدني, والذي تتصحر به الأحلام, فلا يصبح هناك ثمة مكان سوي للألم, أما الأمل فمؤجل إلي زمن آخر غير معلوم. وبعد أن يرسم الشاعر الصورة الشائهة لحبيبته, يضعها أمام عينيها فيما يشبه المرآة, لتكتشف بنفسها سر أزمتها, وبالتالي يصبح علي الواقع أن يتغير بعد أن واجه عقدته المتمثلة في الانحناء والجوع والعطش. وبالتالي تستحيل القصائد- كما أشار جمال بخيت من قبل- إلي أن تكون تسجيلا أمينا ليوميات حياة المصريين في تاريخنا المعاصر, مثلما فعل الجبرتي في عجائب الأخبار. تتبقي ملاحظة أخيرة علي الديوان, تتمثل في أنه أقرب إلي الكشكول منه إلي الديوان, حيث يفتقد الوحدة العضوية بين قصائده, فهو تجميع لتلك القصائد دون أن يكون بينها نوع من التطبيع, بمعني إدماجها داخل وحدة واحدة. فمن القصائد الجديدة, إلي مقدمات المسلسلات الدرامية, ومن قصيدة سوهارتو التي نشرت من قبل في ديوان آخر إلي قصيدة عن حرب أكتوبر وأخري عاطفية, تتبعثر الوحدة العضوية للديوان, وربما كانت ثورة25 يناير هي الفاعل المضمر خلف هذا التجميع المتعجل, لكن ما يغفر للشاعر أن القصائد المتفرقة جاءت متميزة فنيا.