ليلا وتحديدا في العاشرة من كل يوم, ينطلق صوت من الإذاعة الداخلية بمطار أتاتورك الدولي بإسطنبول, ينادي علي السادة المسافرين إلي مطار بن جوريون بتل أبيب, التوجه إلي باب الخروج استعدادا للإقلاع. قبل هذا النداء, وفي أثناء وزن الركاب لأمتعتهم, لايمكن للمرء أن يلحظ ما هو إستثنائي في الإجراءات الأمنية, فكافة خطوط الطيران تلقي معاملة واحدة, لا استنفار ولا ترقب, ولا نظرات تحوم حول الوجوه المسافرة, وهي خليط من عرب وأتراك وإسرائيليين وجنسيات أخري. نفس الشئ يجده المراقب حول السفارة اليهودية الكائنة, مثل عشرات غيرها في حي السفارات بضاحية غازي عثمان باشا, وكذا قنصليتها مع قريناتها الأخريات, في أرض الخلافة المتطلعة دائما وأبدا إلي اللحاق بالركب الاوروبي, لا وجود لجهد أمني فوق العادة, اللهم المزيد من التدابير المحكمة التي لا تسمح بأي تجاوز صغيرا أم كبيرا, حال خروج مظاهرة هنا أو هناك, تنديدا بالممارسات الصهيوينة العدوانية في الاراضي العربية المحتلة وبعد أن تفرخ شحنتها الغاضبة سرعان ما تنفض دون أن تترك أثرا يكون قد مس الممتلكات عامة وخاصة بأي سوء. غير أن هذا الهدوء, يقطعه بين الحين والآخر, العدالة والتنمية الحاكم, بمواقفه الصاخبة الكارهة للدولة العبرية, ورغم أن زعيم الحزب سبق وزارها قبل سنوات, فإن خطاباته ومنذ ذلك التاريخ, لم تحمل إجمالا أي ود تجاه من كان صديقا وحليفا, بل إن مفرداته أخذت تتصاعد في نبرتها العدائية, رويدا رويدا, إلي أن وصلت للذروة عقب مقتل تسعة من الاتراك, في هجوم البحرية الإسرائيلية علي سفينة مرمرة الرزقاء للمساعدات الانسانية, أمام سواحل غزة قبل عامين ونصف. وطوال تلك الفترة لا يفوت المسئول التفيذي الأول بالبلاد فرصة دون التنديد ب الدولة التي تتغذي علي دماء ودموع الفلسطينين مذكرا إياها إذا اردتم تركيا عدوة فانها ستكون قاسية و لن تلين أبدا وتارة أخري يخاطب القادة الإسرائيليين قائلا: أنتم نقطة سوداء ف لا للرضوخ أو الوساطات فليس هناك أغلي من دماء مواطنينا إلي آخره من العبارات النارية التي قد تدفع المتابع إلي الاعتقاد أن حربا ضروسا وشيكة ستقع بين وريثة الإمبراطورية العثمانبة واليهود. ولكن في ظل هذا الهجوم الضاري, فجأة تتسرب أنباء عن لقاءات سرية بين ساسة البلدين, تنقلها وسائل إعلام محلية عن نظيرتها في الغرب, وفي البداية يتجنب صناع القرار في الاناضول التعليق, وبعد تلكؤ لا تجد مؤسسة الخارجية مفرا في أن تؤكد صحة ما تناولته الميديا الأجنبية معللة ذلك بأنه أمر معتاد مادام سيصب في صالح المواطنين, في إشارة إلي محاولات طي ملف حادث سفينة مرمرة, مؤكدة في ذات الوقت أنه لا تنازل عن مطالب أنقرة التي سبق واعلنتها وهي اعتذار رسمي ودفع التعويضات لعوائل الضحايا التسع, وأخيرا رفع الحصار عن غزة. المثير في الأمر هو أنه عندما بدأت علمية عمود السحاب العسكرية ضد غزة منتصف نوفمبر الماضي أعلن بولنت أرينتش الرجل الثاني في الحكومة والحزب ورئيس البرلمان الاسبق أن أنقرة ورغم تدهور العلاقات مع تل أبيب إلا إنها ستعيد اتصالاتها مع الجانب الاسرائيلي لوقف الهجوم علي القطاع, وبعد أقل من ساعتين وعقب صلاة الجمعة نفي اردوغان ما قاله نائبه جملة وتفصيلا مشددا علي أن العلاقات مع الغاصب المحتل للأراضي الفلسطينية مجمدة. وما هي إلا أيام ويثبت معها صحة ما ذهب إليه ارينتش, فبلاده كانت حاضرة في الاتصالات التي كانت تجريها مصر مع حكومة بينيامين نيتانياهو لوقف هجومها غزة والبحث عن هدنة. غير أن الملفت في هذا الصدد هو أن المعارضة العلمانية, تورات جانبا تاركة الساحة للتيارات ذات المرجعية الدينية لتقود حملة ضد حب العدالة الحاكم كاشفة فيها ازدواجية مواقفه وتناقض تصريحاته مقابل أفعاله, ففي الوقت الذي يصب فيه اردوغان جام غضبه علي الصهاينة, يتفق مسئول جهازه المخابراتي هاكان فيدان مع نظيره رئيس الموساد الاسرائيلي في القاهرة علي عودة الاتصالات من جديد بين الجهازين, هذا التطور ووفقا لما قالته صحيفة يني آسيا القريبة من حزب سعادات, الذي أسسه الراحل نجم الدين اربكان, لن يتقصر علي زيادة التعاون الاستخباراتي بين البلدين فحسب بل سيمتد إلي إحياء العلاقات السياسية بين الحليفين, الغريب أنه بالتوازي مع الحرب في غزة كان هناك إعلان من قبل الحكومة عن إنشاء جسر بحري من ميناء اسكندرون المتاخم للاراضي السورية جنوب البلاد الي ميناء حيفا لنقل سيارات الشحن التركية الي فلسطين ومنها برا الي الاردن ومن ثم الي الدول الخليجية بعد توقف المرور عبر الشام أما التبادل التجاري فهو أصلا لم يتوقف بل يزيد سنة بعد أخري. وصواريخ باترويت المزمع نصبها علي الحدود مع سوريا وقبلها منظومة الدرع الصاروخية في ملاطيا القريبة نسبيا من إيران, ما هما إلا حماية لأمن إسرائيل لا أكثر ولا أقل!!