بالرغم من بعض التحفظات علي الدستور الجديد فإنه ولاول مرة في أي دستور مصري يأتي ذكر القوة الناعمة لمصر والمتمثلة في الفن والثقافة والفكر. فمصر هي خلاصة تاريخ الإنسانية منذ العصور الأولي للتاريخ, والعمود الفقري لهذا التاريخ وأعظم ما في دورها الحضاري والثقافي ذلك التنوع الفريد بين كل مؤسساتها الدينية والثقافية والعلمية والفنية.. والذي تعانقت فيه سماحة الاديان.. ورحابة الفكر.. وتنوع الفنون.. واختلاف الرؤي.. فصارت الثقافة جزءا مهما من مكونات شعبها ونسيجه.. ولان هذا الشعب متحضر بالفطرة ويحمل زخما حضاريا وإنسانيا عريضا اكتسبه عبر قرون طويلة.. فقد صدرت مصر الثقافة والفن الي عوالمها القريبة والبعيدة, وأدركت منذ القدم أهمية الاتصال مع سائر الشعوب والحضارات, وسعت دائما إلي توطيد علاقاتها الثقافية مع جيرانها, وخير دليل علي ذلك مكتبة الإسكندرية القديمة التي كانت منارة للعلم تستقبل طلابه وتنشر نورها علي العالم القديم....كما ظهرت دعوات مصرية مبكرة لوحدة الثقافة العربية قادها العديد من المفكرين علي رأسهم الكاتب الكبير توفيق الحكيم والفيلسوف المصري الكبير الدكتور زكي نجيب محمود و دعوا الي قيام وحدة عربية علي أساس من الوحدة الثقافية, وإن العربي عربي في ثقافته التي هي تعبير عن رؤيته ووجدانه قبل ان يكون عربيا لاي سبب آخر, اساسه اللغة العربية وماتنطوي عليه تلك اللغة من دلالات تتفرع منها, فاللغة العربية مشحونة بمجموعة من القيم المبثوثة في ألفاظها ومنها يتكون وجدان الامه العربية. ومهما تغيرت الاحوال والظروف وتعرضت مصر لتقلبات كثيرة في الخارج او الداخل فسيظل دورها الثقافي هو اكثر ادوارها بريقا واعمقها أثرا. وهنا يأتي العنصر البشري الذي يعتبر اهم مقوم لهذا الدور, وهو لايتوافر في كل البلاد ومن الصعب تعويضه.. فالبشر هم عماد اي استثمار ثقافي وخير دليل علي ذلك الدور الثقافي الذي لعبته مصر عبر تاريخها الطويل من خلال مؤسساتها الثقافية والتعليمية التي امتدت الي اعماق التاريخ ابتداء بمكتبة الاسكندرية القديمة مرورا بالازهر الشريف واستمر حتي انشاء الجامعة المصرية رائدة المعرفة في مواكب النخبة العربية. فلا يوجد مثقف كبير او فنان مبدع.. او شاعر في اي عاصمة عربية, إلا وشق طريقه من خلال مصر الازهر.. او الجامعة المصرية او المناخ الثقافي المصري بكل تفاعلاته وتاثيره..ان هذا التفاعل الحي بين مصر وثقافتنا العربية كان يمثل قوة الدفع الحقيقية والقوة الناعمة نحو مستقبل اكثر استنارة ووعيا وابداعا ولم يحاول اي طرف من الاطراف في يوم من الايام ان يشكك في عمق هذه الروابط لانها كانت تمثل زادا حقيقيا للعقل والوجدان العربي, ولانها كانت حقائق ثابته لاتقبل الظن او التاويل.....وفي العصر الحديث استمر هذا الإدراك ونما سعي مصر إلي تنمية علاقاتها الثقافية مع مختلف دول العالم ولا سيما الدول العربية الشقيقة التي تربطنا بها أواصر اخوة, وجذور حضارية وثقافية مشتركة, وذلك من خلال قنوات عديدة, وكان أن أنشأت المراكز والمكاتب الثقافية التي مثلت نوافذ حضارية يتم فيها المزيد من التعارف وتبادل الثقافات.....وأرجو أن يتم تنميتها في المستقبل القريب. وأخيرا وفي ظل عهد جديد نتمني له الاستقرار, نطالب الدولة بأن ننطلق بالثقافة والفن كقوة ناعمة الي كل بلدان الجوار فهي في غاية الاشتياق لاستقبال فن وثقافة المصريين المحترمة وأن ننأي بأنفسنا عن التجارة في هذين الرافدين المهمين, فنحن لسنا أقل من الاتراك الذين استطاعوا في فترة وجيزة عن طريق مسلسلاتهم فقط أن يكونوا رأيا عاما وجمهورا كبيرا بين العرب ناطقي اللغة العربية, وأصبحت منتجعاتهم وشوارعهم وطرقاتهم تعج بالعرب من كل مكان وزمان, لقد كنا السباقين في القرن الفائت ولم يكن هناك كتاب أو عمل ثقافي سواء مسرح أو سينما إلا وتجده بعد قليل في جوارنا. المزيد من مقالات د.حامد عبدالرحيم عيد