عند كتابة هذا المقال كان الرئيس محمد مرسي قد أنهي لتوه بيان الخميس الماضي داعيا قوي المعارضة إلي الحوار, مؤكدا دعوته الشعب إلي الاستفتاء علي مسودة الدستور الجديد15 ديسمبر, معتبرا اللجوء للإرادة الشعبية بمثابة الحل الأمثل للأزمة المحتدمة منذ أصدر قراراته المسماة( إعلان دستوري), والتي أوشكت علي الدخول في مربع الاحتراب الأهلي. وما ذهب إليه الرئيس هو عينه ما كانت رموز التيار الإسلامي قد ذهبت إليه, باعتبار أن الشعب هو مصدر السلطات, فإن وافق علي المسودة, صار لدينا دستور جديد, وسقطت قرارات الرئيس من تلقاء نفسها, وإذا رفضها تحقق للقوي المدنية ما تصبو إليه من تشكيل يصير( ضروريا) لجمعية تأسيسية جديدة تضع دستورا بديلا. هذا الفهم يبدي التيار الإسلامي وكأنه الأحرص علي إرادة الجماهير والأكثر ثقة بها, فيما التيار المدني هو الأكثر خوفا منها, ورغبة في الالتفاف حولها, وهو أمر غير صحيح, يتبدي عواره علي صعيدين أساسيين: أولهما يتمثل في منطقه السياسي الهروبي الذي ينكر سبب الأزمة الجوهري, ويضع لها حلولا تخلق أزمة أكبر, فإذا كان الناس يرفضون بنود الإعلان الدستوري لبعض الوقت, فإن عليهم قبول دستور كامل, يكرس للاستبداد طول الوقت. إنه التكتيك المعروف ب( الهروب للأمام), بغرض كسر إرادة الخصم ودفعه لتقبل ما كان يرفضه من قبل خلاصا للأسوأ الذي قد يأتي بعد. وهو تكتيك يصلح للتعامل مع الأعداء, طالما مارسته إسرائيل, مثلا, إزاء الفلسطينيين, عندما تهرب من قضية الاستيطان بشن حرب, ينشغل بها الجميع, فتختلط الأوراق وتضيع القضية الأساسية. ولكنه منطق لا يصلح للتعامل مع شركاء وطن, أو لصوغ مستقبل, يحتاج كلاهما إلي التوافق حول ملامحه الأساسية. أما ثانيهما فيتمثل في افتقاده روح العدالة والإنصاف, لأنك عندما تصنع أزمة, وتضع لها حلا واحدا تستفتي الناس عليه, وعندما يكون الخيار( نعم) هو وحده المخرج( الواضح والملموس), فيما يمثل الخيار( لا) عودة إلي المربع صفر, فإنك تزيف وعي الجماهير, وتجبرهم في الحقيقة علي قول( نعم) وإلا تأخر استقرارهم وأمانهم, ولو كان استقرارا زائفا وأمانا هشا. هنا نكون في حال أشبه بمباراة في كرة القدم يبدؤها أحد طرفيها مهزوما بنتيجة صفر 2, ويتوجب عليه أن يتعادل أولا مع خصمه قبل أن يبدأ المنافسة الحقيقية معه سعيا للفوز. وهذا ظلم كبير سواء للفريق الكروي, أو للطرف السياسي اللذين يحق لهما التنافس من موقع متكافئ. وتحقيقا للعدالة السياسية, نطرح هنا خيارات ثلاثة تصلح أساسا للحوار بين الرئيس والمعارضة, نرجو ألا لا يكون قد فات أوانه, علي طريق توافقهما, أو علي الأقل ضبط الصراع بينهما بشروط تضمن عدالة التنافس, وسلميته, واحترام الجميع لنتائجه: الخيار الأول هو السعي لبناء توافق وطني يستلزم العودة إلي موقف21 نوفمبر, ولكن بروح تخلو من التربص المتبادل, وذلك بتجميد الإعلان الدستوري, واستئناف العمل علي مسودة الدستور الراهنة, وذلك من قبل فقهاء دستوريين خمسة فقط, يعينهم الرئيس نفسه, بترشيح من التيارات الفكرية والسياسية الأساسية في المجتمع المصري: الإسلامي, والليبرالي, واليساري, والقومي والناصري, ناهيك عن ممثل للكنيسة المصرية. هؤلاء الفقهاء لو أحسن اختيارهم, وخلصت نواياهم, وجلسوا معا في غرفة مغلقة, أمام مسودة الدستور الحالية, ومعها دستور1971 م, لابد وأنهم قادرون, في وقت لا يتعدي الشهر, علي وضع دستور رائق يليق بمصر الثورة, يطرح للنقاش العام لمدة شهر آخر, ليتم الاستفتاء عليه, مثلا, في15 فبراير2013 م. العيب الرئيسي في هذا الخيار من وجهة نظر التيار الإسلامي أنه يبدي الرئيس في صورة المتردد الذي تراجع عن قراراته للمرة الثالثة, ولكنه عيب من وجهة نظر رئيس يحكم بقوة الأمر الواقع أو بانتخابات مزورة, أما في حالة رئيس منتخب شرعيا فيستحيل التراجع ميزة, إذ يمثل استجابة ليس فقط لصوت العقل, حقنا للدماء, بل أيضا لصوت الديمقراطية التي تعلي من قيمة المعارضة وتحترم إرادة الجماهير. والخيار الثاني هو السماح للتيار المدني, ومن خلال من يختارهم رموزه من شخصيات عامة وفقهاء دستوريين, بإعداد مسودة موازية للدستور, كان البعض قد تحدث عنها وربما شرع فيها. علي أن يمنح هذا التيار فرصة الشهر لتقديمها الي الرئيس, الذي يتوجب عليه آنذاك أن يدعو الشعب ليس فقط للاستفتاء بل للانتخاب بينها وبين سابقتها. العيب في هذا الخيار كونه سابقة استثنائية في اعداد الدساتير, ولكنه يملك ميزة أساسية في المقابل لكلا التيارين, فمن ناحية يعفي التيار الديني, والرئيس مرسي من( هاجس) التراجع الذي حسبناه ميزة لا عيبا. ومن ناحية أخري يحقق للتيار المدني العدالة السياسية, إذ يضعه في موقع متكافئ مع منافسه, وفي المقابل يلزمه بالكف عن تظاهراته مع الشروع في هذا الخيار, كما يلزمه باحترام نتيجته النهائية إن جاءت لصالح منافسه, ما يمنع الاحتراب ويكرس للاستقرار. وأما الخيار الثالث فهو تقديم المسودة الراهنة وحدها للاستفتاء الشعبي عليها ولكن بشرطين أساسيين: أولهما تأجيل الإستفتاء نحو الشهر حتي تكون هناك فرصة لخوض جدل سياسي وثقافي واسع حولها في الفضاء الإعلامي بشتي مكوناته المرئية والمسموعة والمكتوبة, الخاصة والعامة, فيما يشبه أن يكون حملة تنوير واسعة وعميقة وممتدة حول القواعد والأصول الدستورية, يستخدم كل تيار خلالها ما يملكه من أدوات سلمية لتوصيل رسالته إلي الجمهور, كي يأتي خياره أقرب الي الحقيقة الموضوعية والمصلحة الوطنية. وثانيهما, وهو الأهم, إضافة مادة أخيرة إلي تلك المسودة تقول إن علي الرئيس حال رفضها أن يقدم استقالته من موقعه, لأن رفضها يحمل في طياته رفضا للرئيس وسياساته, ولميول التيار الذي يقف خلفه, والذي طالما انحاز إليه وعبر عنه. وهنا لابد من احترام إرادة الشعب علي النحو الذي يطالب به الإسلاميون الآن ولكن مع الاستعداد لدفع تكلفة خياراتهم الفاشلة والمقلقة, أما حشر الجميع في زاوية دستورهم, واستفتاء الناس عليه وحده, دون توافق, ودون استعداد لتحمل التكلفة, فيعني منحهم قدرة لا محدودة علي التجريب في مصر, والمزايدة علي المصريين, وهو أمر لا يمت للعدالة السياسية بصلة. المزيد من مقالات صلاح سالم