نشأت وأشقائي في أسرة ميسورة الحال تتمتع بمكانة اجتماعية مرموقة, وبرغم ثراء والدي الذي كنا نسمع عنه ممن حولنا فإننا لم نلمس أثرا له علينا, فلقد كان حريصا جدا معنا ليس بخلا منه كما كنا نتصور وقتها, ولكن لكي نعرف قيمة هذه الأموال ولا تكون سببا في فساد أخلاقنا, وهو الذي نشأ علي الاخلاق الحميدة في أسرة فقيرة, وسلك طريق الكفاح حتي النجاح. والمدهش أنه مع هذا الثراء أقام في بيت متواضع يملك سكرتيره الخاص منزلا أكثر فخامة منه, ويتحدث عن ماضيه بكل فخر واعتزاز.. أما عن سلوكه مع شقيقاتي فقد كان شديد الصرامة, وفرض عليهن الرقابة الدائمة من حيث الخروج والدخول إلي المنزل, ولقاء صديقاتهن وحتي مكالمات الهاتف.. وكان يعطينا المال بقدر وحكمة, والحقيقة أنه وفر لنا نحن البنات كل وسائل الرفاهية بالمنزل لكيلا نبحث عنها خارجه. أما أشقائي الذكور فلقد أجبرهم علي العمل معه حتي تكون تصرفاتهم تحت عينيه, ولكي يستغل وقته في العمل وفي تربيتهم في آن واحد, ولم يعطهم إلا بقدر ما يعملون فقط, بل إن تدرجهم الوظيفي في شركاته كان مثل باقي العاملين.. وبالطبع لم يرضوا بذلك ونظروا الي نصف الكوب الفارغ ظانين أن والدي لا يحبهم بل ان منهم من تمني ان يموت. وكثيرا ما سمعت هذه الكلمات القاسية من أبناء أفقدهم الجشع والطمع حبهم لأبيهم.. وهكذا عرفت أن نيات أشقائي تجاه أبينا شريرة. ومرت الايام علي النحو الروتيني.. أبي يزداد ثراء.. وأشقائي الذكور يزدادون توحشا وحنقا عليه, وتزوجت شقيقتي الكبري ثم تبعتها أنا, حيث تقدم لي أحد مديري شركات والدي, وكان مقربا جدا من أشقائي ودائم التردد علي بيتنا, وهو يتسم بحسن الخلق, ومن عائلة طيبة, ومقرب من والدي, وكان اختياره لي مفاجأة لعلمي المسبق بأنه يحب حياة الغرب والتحرر, أما أنا فكنت بعيدة تماما عن النموذج الغربي المثالي من وجهة نظره, إذ إن أبي لم يكن يحب هذا النوع من التحرر, لكنه لم يجد فيه ما يعيبه فوافق علي أن يرتبط بي ورضيت به زوجا بكامل إرادتي.. وكان يوم زواجي هو أول يوم أبيت فيه خارج المنزل, وأبتعد عن والدي.. وتزوج بعدي أشقائي وشقيقاتي واحدا تلو الآخر. وبعد الزواج بدأت المتاعب, إذ كان زوجي دائم الشكوي من أن والدي يعامله مثل الغرباء, وحاولت إفهامه وهو يعلم ذلك بأن أبي لا يفرق بين الناس الا بالعمل وحتي أبنائه لم يفضل أحدا علي أحد, ولا أخفيك سرا أنني شعرت بمرارة شديدة وأدركت حينئذ أنه تزوجني من أجل مصلحته, وزاد من مرارتي أنه أخذ يتهرب من اصطحابي معه إلي الحفلات والمناسبات لأنني لست متحررة كما يريد في ملبسي ومعاملتي مع الناس, وهو أمر رفضت مجرد النقاش فيه.. وبعد عام رزقني الله بابنتي الوحيدة, ومرت السنوات وأصر علي الحاقها بمدرسة اجنية, ولم أستطع الصمود في معارضته كثيرا, والتحقت ابنتي بالمدرسة التي اختارها لها, وهنا مارست دوري كأم شرقية بعد عودتها من الحضانة يوميا, وعنفني زوجي علي ذلك كثيرا.. وطرأ تطور جديد عليه اذ طلب اصطحابنا له في الخارج, وألح علي كثيرا أن أغير طريقة ملابسي, وقدمت له بعض التنازلات لكي أري الحياة التي يحياها والتي يرغب في أن ينقلنا إليها. وهناك اندمجت ابنتي مع الأجانب تحدثهم بلغتهم, وتتعامل معهم بالطريقة نفسها التي يمارسون بها حياتهم, وعندما كنت أحاول منعها من ممارسة بعض العادات الخاطئة كان زوجي يعنفني أمامها, وهكذا مالت إليه ولم تعد تعير ما أقوله لها أي اهتمام.. وعندما وصلت ابنتي الي المرحلة الثانوية رحل والدي عن الحياة.. وكشف الجميع عن وجوههم القبيحة ونياتهم الشريرة, وتحول بيتنا إلي غابة البقاء فيها للأقوي.. وهجم أشقائي هجوما كاسحا علي ممتلكات والدي واستولوا عليها بالتزوير والقوة, وتحولوا إلي ذئاب تنهش كل من يعترضها.. حتي زوجي كشف عن وجهه القبيح هو الآخرعندما حرمني أشقائي أنا وأخواتي من معظم الميراث, ولم نحصل إلا علي الفتات, اذ لم يرض زوجي ما حدث, وأراد أن يفوز بقطعة كبيرة من التورتة, فحرضني علي الاشتراك في معركة طعون ضد أشقائي الذكور, ولجأ للضغط علي إلي الضرب والسباب, وطلبت منه أن يتعامل معهم باعتبار أنه صديقهم ومدير احدي شركات الورثة, فوافق وذهب إليهم وعرض عليهم الأمر, وهنا انقلبوا ضده, وطالبوه بعدم الاقتراب من الشركة بعد اليوم.. وهكذا وجد نفسه مفصولا من عمله وممنوعا من دخول الشركة.. وفي اليوم التالي بعث لي بورقة الطلاق, ومعها رسالة تفيد بأنه باع الشقة التي أقيم فيها مع ابنتي, وأنه سافر إلي الخارج ولن يعود أبدا.. ولم أجد مفرا من أن اصطحب ابنتي الي بيت والدي القديم, فوجدت أشقائي قد باعوه واستولوا علي ثمنه, فإشتريت بما إدخرته من مالي شقة تمليك صغيرة ووضعت ما تبقي معي من مال في أحد البنوك حتي أصرف منه علي المعيشة وألبي متطلبات ابنتي التي ساءت حالتها النفسية تماما, وأصبحت تكره والدها كرها شديدا, كما كرهت أخوالها وتمنت لهم الموت وانعزلت عن الحياة.. ووجدتني سعيدة بذلك, وقمت بتحويل أوراقها إلي مدرسة حكومية ومنعتها من الخروج من البيت, وبدأت تستجيب ظاهريا لتوجيهاتي, وغيرت كثيرا من نمط حياتها الغربي الذي عاشته مع أبيها, وسمحت لصديقاتها بزيارتها, وبدأت صديقة مقربة لها في التردد عليها باستمرار بحجة المذاكرة فكانتا تغلقان الباب عليهما بحجة التركيز, ولم تكن تفتح الباب الا عند مغادرة زميلتها المنزل عائدة إلي بيت أسرتها, وتطورت الأمور واصبحتا تبيتان معا, وخيرتني ابنتي بين أن تفعل ذلك أو أن تخرج هي مع صديقتها وتبيت عندها, فوافقت مرغمة علي استضافة زميلتها. وذات يوم فتحت جهاز الكمبيوتر الخاص بابنتي فصعقت من مقاطع الفيديو لابنتي وهي في أوضاع شاذة مع صديقتها, ومرت ساعات حتي عادت ابنتي فرمقتها بنظرة فهمت منها انني اكتشفت الحقيقة المؤلمة التي تخفيها عني, وهنا وجدتها تقول لي إنها تكره الرجال, فلقد تركها أبوها وأخذ أخوالها ميراثها.. وأنها تعلمت هذه الفلسفة الجديدة والغريبة في الخارج, وطالبتني بأن أدعها وشأنها, وإلا فسوف تترك لي المنزل ثم بكت بكاء مريرا. فبماذا تنصحني ان افعل معها؟.. وهل الرقابة الدائمة داخل البيت وخارجه وحتي خلف الأبواب المغلقة هي الحل؟ {{ وأقول لكاتبة هذه الرسالة: لا يتعلم الإنسان إلا بأخطائه, ولا تعرف الأشياء إلا بأضدادها.. فما كان ممكنا أن تذوقي حلاوة الالتزام الديني والأخلاقي الذي نشأت عليه, لو أنك لم تعايشي الواقع المتحرر في الخارج الذي يتيح لكل إنسان أن يفعل ما يرغب فيه دون ضوابط ولا قيود.. وما كان ممكنا أن تعرف ابنتك خطورة الانزلاق في تيار الانحراف ومحاكاة فتيات الغرب إلا بعد أن تتأكد عن يقين من أن ما أقدمت عليه سوف يؤدي في النهاية إلي أن تخسر نفسها ومن حولها. والحقيقة يا سيدتي أنني لست من أنصار الرقابة المشددة والقرارات الصارمة التي يصدرها بعض الآباء علي أبنائهم, لأن الممنوع دائما مرغوب, ولذلك يجب اتباع منهج معتدل للوصول بهم إلي بر الأمان.. فعلي كل أبوين أن يشرحا لأبنائهم خطورة السلوكيات المرفوضة, ويضربان لهم أمثلة كثيرة عن الواقع الموجود في الغرب, والذي يؤدي دائما إلي التهلكة وفقدان الإنسان التواصل مع الآخرين. ونحن البشر لا نحس بالسعادة إلا إذا كابدنا الشقاء, ولا نشعر بالرضا إلا إذا عانينا من العناد والمكابرة والأثرة, وأنت عانيت الكثير من أنانية زوجك, وحبه للمال والشهرة علي حساب بيته وابنته, وتبينت أهدافه الحقيقية من ارتباطه بك, والتي تنحصر في الحصول علي ميراث كبير من أبيك, فلما وجد أن كل شيء أخذه أشقاؤك الذكور إذا به يكشف عن وجهه القبيح, ويلقي بك وبابنته من شرفة حياته, وينصرف باحثا عن هدف آخر يحقق له أطماعه في الشهرة والمال, ومثل هذا الأب ليس جديرا بأن تبكيه ابنته ولا أن تحزني علي انفصاله عنك, وكذلك الحال بالنسبة لأشقائك الذكور الذين خالفوا شرع الله وحرموك أنت وشقيقاتك من الميراث المستحق لكن. فهؤلاء جميعا يجب أن يسقطوا من حساباتك, وعليك أن تشرحي لابنتك أن ما فعله أبوها وأخوالها ليس مسوغا لها لأن تكره الرجال وتنزلق في تيار الانحراف.. وانما عليها أن تثبت أنها أقوي منهم وأنها قادرة علي أن تحقق نجاحاتها بنفسها, وسوف تصادف من هو جدير بها ويكون أهلا لها.. أما أن تتجه إلي حافة الهاوية بهذه التصرفات الطائشة وغير المقبولة, فإن ذلك سوف يكون بداية نهايتها. وأقول لها: استغفري ربك وتخلصي من عادتك السيئة, واستعيني بالصبر والصلاة, وعيشي حياة جديدة مملوءة بالحب للآخرين والعفو عن المخطئين.. وستجدين نفسك راضية مرضية, وسوف يكتب الله لك الهداية والتوفيق.. وهو وحده المستعان