انتكست مصر في يونيو 1967 في أقسي هزيمة عسكرية تعرضت لها في تاريخها الحديث في حرب أو بالأحري لا حرب زج فيها بالجيش بعد أن استدرجت القيادة وساد الظن طويلا بأن أحوال مصر إثر تلك الهزيمة هي أسوأ ما يمكن حدوثه للبلاد ولكن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية الحالية هي أسوأ كثيرا من تلك التي سادت عقب هزيمة يونيو. وقعت هزيمة 1967 والاقتصاد المصري قادر علي أن يحقق نموا سنويا معتبرا خلال السنوات الخمس التالية فباستثناء سنة الهزيمة التي تراجع فيها معدل النمو إلي1% بالسالب تراوح معدل النمو بين2 و4% و7و6 خلال السنوات الأربع التالية وحقق ميزان المدفوعات فائضا عام1968 وعجزا في الأعوام الأربعة التالية كان أقصاه عام1971 بحوالي27 مليون دولار يمثل17% فقط من إجمالي الصادرات وكانت الاحتياطيات الدولية تغطي واردات تراوحت بين16 شهرا عام 1968 و10 شهور عام1972 وبلغت نسبة التضخم حوالي4% فقط وكلها مؤشرات تدل علي قدرة الاقتصاد علي الصمود والتماسك بعكس الوضع الراهن فخلال العامين الماليين الأخيرين انخفض معدل النمو إلي1.8% و2.2% سنويا وحقق ميزان المدفوعات عجزا بحوالي 9.7 مليار دولار و3.11 مليار دولار بنسبة36% و42% علي التوالي من إجمالي الصادرات وتغطي الاحتياطيات الدولية حاليا واردات ثلاثة أشهر فقط وبلغت نسبة التضخم 8,11% و10.3% الناتج المحلي الإجمالي وغير ذلك من المؤشرات الدالة علي مدي التردي الاقتصادي وتوقعاته الكارثية. وبمقارنة الأوضاع الأمنية عقب هزيمة1967 بالأوضاع الحالية يتبين بوضوح كم كانت أوضاع ما بعد هزيمة1967 أفضل كثيرا من الأوضاع الحالية حيث ظل معدل الجرائم في سياقه المعهود آنذاك ولم يشعر المصريون بعدم الأمان بالرغم من ظروف الحرب وهجرة أهالي القناة والإظلام المتكرر للمدن, فكانت البيوت والشوارع آمنة وكانت الدولة تفرض سلطتها علي جميع أرجاء البلاد باستثناء سيناءالمحتلة, وكانت الشرطة في كامل عافيتها ويقظتها وتلقي احترام المجتمع بأسره وذلك وضع لا تعرف البلاد مثله الآن, بل أصبحت تعرف قطعا للطرق والسكك الحديدية وجرائم خطف وسرقة بالإكراه وبيع علني للمخدرات وغيرها من الجرائم غير المسبوقة في تاريخ البلاد وأصبحت الشرطة في نظر الكثيرين عدوا أو علي الأقل مدانة حتي تثبت براءتها. وفي حين كان هدف المصريين جميعا واضحا إثر هزيمة1967 وكانت خلافاتهم مؤجلة ومنحاة جانبا من أجل اجتياز المحنة فإنهم الآن لا يتفقون علي شيء بدءا من إعداد الدستور وحتي إقامة مباريات الكرة ولا يستطيعون إدارة خلافاتهم بل حتي مجرد الحوار وتسود بينهم لغة التخوين والإقصاء في حالة تشرذم غير مسبوقة, وشتان بين ما أخرجت مصر في الفترتين, فحين كان الوطن في خطر إثر هزيمة 1967 أخرجت مصر أفضل ما فيها من رجال وشباب يحتشدون علي جبهة القتال ويبيتون في الخنادق والملاجئ حاملين السلاح دفاعا عن الوطن, واستعدادا لمعركة التحرير, وأخرجت أبطالا حقيقيين لم يسعوا وراء مغانم من أموال ومناصب وشهرة, والآن تخرج مصر أسوأ من فيها من مجرمين وبلطجية وخارجين علي القانون يعيثون فسادا في قلب مدنها حاملين السنج وزجاجات المولوتوف قاطعين للطرق ومروعين للآمنين وأخرجت أدعياء للبطولة وهم أبعد الناس عنها. هزمت مصر هزيمتين هما الأسوأ في عصرها الحديث: الأولي في مواجهة عدو خارجي احتل أرضها ست سنوات وحاول كسر إرادتها وفشل والثانية بأيدي البعض من أبنائها الذين تحولوا إلي أعداء أشد ضراوة وقسوة من عدوها الأول يحاولون تفتيتها من الداخل بهدم مؤسساتها وتخريب اقتصادها وإشاعة الاضطراب في أرجائها. في الهزيمة الأولي كان ولكن مصر انتفضت رافضة الهزيمة مؤكدة للعالم أجمع أن مصر هي مصر وأنها تمرض ولا تموت وأذهلت العالم بانتصار تاريخي سيظل ملهما لأجيال وأجيال, فهل تفعلها مصر في هزيمتها الثانية؟ هل تنتفض مصر ضد أعداء الداخل وتفرض الأمن في ربوع البلاد؟ هل تقدر مصر علي إدارة الخلاف دون تخوين أو استبعاد؟ هل تدفع مصر ثمن الخروج من الكارثة الاقتصادية التي تمر بها؟ الإجابة هي نعم وبالتأكيد مصر قادرة علي ذلك وأكثر بشرط أن يدرك الجميع أولا حجم الكارثة التي تعيشها البلاد حاليا ثم يتوحدون وراء قرارات حازمة وحاسمة ولازمة لإنقاذ البلاد من الدرك الذي تردت إليه. المزيد من مقالات جمال وجدى