تحقيق:أحمد عصمت إذا كان حكم القضاء قد أنصف المواطن الذي تسربت آماله من بين أصابعه وهو يراجع كشف الراتب الشهري الذي يتقاضاه والذي يصل أحيانا إلي80 جنيها, فإن خبراء الاقتصاد ينبهون إلي كثير من مواضع الخلل الأخري بخلاف تدني الحد الأدني مثل الهوة السحيقة التي تفصل بين أعلي الأجور وأدناها. وكذلك ارتفاع أجور الحرفيين مثل عمال السباكة والكهرباء والنجارة وغيرهم بشكل يفوق أجور الأطباء والباحثين وأساتذة الجامعات. وبالرغم من أن ربط الأجور بالأسعار يعد حلما جماهيريا فإن الخبراء يحذرون من الإسراف في اللجوء له لأنه لا يكفي بمفرده لمواجهة هذه المشكلة وإنما لابد من أن تصاحبه مجموعة أخري من الإجراءات وإلا فإنه سوف يؤدي إلي التضخم, والمزيد من ارتفاع الأسعار. في البداية يعود الدكتور علي لطفي, رئيس وزراء مصر الأسبق وعضو لجنة الشئون المالية والاقتصادية بمجلس الشوري, إلي مرجعية التشريعات التي تحدد الحد الأدني للأجور, مشيرا إلي أن الحد الأدني محدد بمقتضي قانون عام1984, وكان35 جنيها شهريا وقد أضيفت إليه العلاوات الاجتماعية العديدة التي تقررت لاحقا حتي وصل إلي150 جنيها تقريبا في الوقت الحالي. وقد صدر حكم من مجلس الدولة بأن الحد الأدني يجب أن يرتفع إلي1200 جنيه شهريا بما يتفق مع الارتفاع في الأسعار في شتي القطاعات وهو أمر يمكن أن يكون محل استئناف من الحكومة في هذا الحكم. الأجر المعقول إلا أن الحد الأدني للأجر كما يراه د.علي لطفي يجب ألا يكون أمرا جزافيا حسب التقدير الشخصي وإنما يجب الأخذ في الاعتبار عدة اعتبارات عند التعرض لتحديده, وفي مقدمتها مستوي الأسعار السائد, فكلما ارتفع مستواها فإن قيمة الحد الأدني للأجور تتأثر أيضا, كما يجب النظر لاحتياجات الأسرة المصرية التي لا غني عنها بحيث يفي الحد الأدني للأجور بهذه الاحتياجات إذا افترضنا أن حجم الأسرة مثلا3 أو4 أفراد. لكن العنصر الأهم في الموضوع أن نحدد وسائل التمويل بعد تحديد تكلفة هذا التحريك في الأجور مع الأخذ في الاعتبار أن الأمر لن يكون مقصورا علي الحد الأدني فقط, وإنما زيادة هذا الحد تستلزم التدرج في الزيادة لباقي الدرجات حتي الحد الأقصي, أي أن زيادات الأجور ستكون شاملة. والهدف من تحديد التكلفة كما يقول د.علي لطفي هو تحديد مصادر التمويل اللازم لهذه الزيادة. ولحل مشكلة التمويل يطرح رئيس الوزراء الأسبق أسلوبين لتوفير هذه الموارد ولكنه يرفضهما في الوقت نفسه نظرا لخطورتهما الأول بأن نطبع أوراقا نقدية ونطرحها في السوق, وهو أسلوب مدمر يؤدي إلي المزيد من ارتفاع الأسعار والتضخم, أما الأسلوب المرفوض الثاني فهو أن نقترض من الخارج, وهو أمر مخيف أيضا, خاصة إذا علمنا أن الديون قد وصلت لأرقام كبيرة وبالرغم من أنها في الحدود الآمنة حاليا إلا أن أعباءها كثيرة, خاصة لو علمنا أن مشروع الموازنة الجديد الذي ندرسه حاليا في مجلس الشوري يشير إلي أننا سندفع العام المقبل أقساط وفوائد الدين العام بإجمالي نحو170 مليار جنيه منها90 مليونا للفوائد و80 مليونا للأقساط! وما يؤكد صعوبة الاعتماد علي الاقتراض أيضا أن المشكلة في مصر لها خصوصية معينة وهي ضعف الايرادات المحققة لأسباب عديدة. إلا أن الحلول الآمنة التي يراها رئيس الوزراء الأسبق يمكن أن تعوض التكلفة من خلال عدة إجراءات أهمها ترشيد النفقات الحكومية وعلاج مشكلة التهرب الضريبي وتحصيل المتأخرات الضريبية والأفضل من ذلك أن نوسع القاعدة أكثر بتسهيل إقامة المشروعات الجديدة والقضاء علي ما يواجهها من مشكلات روتينية مما يؤدي إلي إضافة عائدات ضريبية جديدة وتقليل البطالةوضخ أموال في السوق. ولذلك فإن الحسابات التقديرية للدكتور علي لطفي وفقا للمعطيات المطروحة ودراسة كل العناصر تشير إلي أن الحد الأدني المعقول الذي يجب أن نبدأ به هو500 جنيه في الشهر مع تعديل باقي الأجور بالطبع ولكن علينا أن نتفق جميعا علي ايجاد مصادر التمويل لهذه الخطوة. الرواتب الأعلي20 ضعفا إلا أن أحد مهندسي الاصلاح الاقتصادي في مصر د.سلطان أبوعلي, وزير الاقتصاد الأسبق, يرصد اختلالات عديدة في نظام الأجور في مصر, إذ أصبح من الضروري وضع حد أدني للأجور كضرورة حيوية لتحقيق العدالة الاجتماعية. ويحدد د.سلطان هذه الاختلالات في مظاهر عديدة أولها أن نسبة أعلي أجر تزيد بمعدل20 ضعفا بالمقارنة بأقل أجر, أي أن هناك فجوة كبيرة بين المستويات الأدني والمستويات الأعلي للأجور, وهذا يعني عدم عدالة توزيع الدخل, بينما هذا الفارق لايزيد في دولة متقدمة مثل السويد علي5 أضعاف ولا يقتصر الأمر علي ذلك بل إن هناك عددا كبيرا من موظفي الحكومة والقطاع العام يتقاضون رواتبهم عالية جدا بدون أن يكونوا من أصحاب الخبرات النادرة أو من أصحاب الإنتاجية العالية التي تتكافأ مع رواتب المبالغ فيها بينما هناك العديد من أصحاب الخبرات المتميزة جدا مثل أساتذة الجامعات والأطباء وخبراء مراكز البحوث الذين لا يحصلون سوي علي رواتب محدودة جدا! ويستمر الدكتور أبوعلي في حصر هذه الاختلالات في الأجور, مشيرا إلي نظام التعليم المختل الذي يخرج الآلاف من الطلاب في الكليات النظرية الذين لا تحتاجهم سوق العمل بينما يتراجع الاهتمام بالتعليم الفني المتميز الذي يخدم القطاعات الإنتاجية وقد أدي ذلك إلي تضخم أجور الحرفيين بصورة كبيرة برغم ضعف تدريبهم وكفاءتهم وقد تولد عن هذا الوضع سلوكيات خاطئة وخلل في ثقافة المجتمع إذ أصبح الشباب يفضلون الجلوس علي المقاهي انتظارا لوظيفة مكتبية برواتب200 جنيه بدلا من العمل في مصنع أو ورشة أو متجر بمبلغ500 جنيه في الوقت الذي اتجه فيه قطاع الأعمال لاستيراد عمالة من الهند وبنجلاديش للوفاء باحتياجات السوق برغم أن عندنا بطالة نسبتها9% من القوي العاملة أي ما يمثل2.3 مليون شخص, ويتردد أن مصر فيها نحو350 ألف شخص من العمالة الصينية! ربط خطر يطرح وزير الاقتصاد الأسبق الفكرة التي يرددها البعض بربط الأجور بالأسعار أو ما يسمونها تقييس الأجور بالأسعار. ويري أن هذا المبدأ لا يصلح إلا في الاقتصادات التي وصلت إلي مراحل متقدمة من النضج والتوازن والاستقرار. أما بالنسبة لحالتنا فنحن مازلنا في المراحل الأولي للنمو إذن الربط بشكل مباشر بين مستوي الأجور والأسعار يؤدي في حالتنا إلي الإقلال من تنافسية الاقتصاد لما يؤدي إليه من ارتفاع تكاليف الإنتاج فلو زادت الأسعار مثلا10% فإن الأجور تزيد9% مثلا, فهذا يزيد تكلفة السلعة مباشرة! كما أن هذا الربط أيضا سيؤدي إلي ارتفاع معدل التضخم, وكذلك إلي زيادة العجز في موازنة الدولة إضافة إلي الاضرار بميزان المدفوعات, وبالتالي إضعاف الاقتصاد المصري. وهنا فإن الفيصل في هذا الشأن كما يطرحه الدكتور سلطان هو ربط الأجور بالإنتاجية ويتساءل: كيف ينتج شخص ما إنتاجا قدره20 جنيها يوميا بينما يتقاضي30 جنيها؟ فلو استمر وضع كهذا يعني خسارة مؤكدة وبالتالي أطرح ثالوثا يتكون من3 عناصر هي: الأجور والأسعار والإنتاجية بحيث لا تنفصل تلك العناصر علي مستوي المجتمع كله وهي مهمة يمكن أن يقوم بها المجلس الأعلي للأجور برغم ما يكتنفها من مشكلات. وحتي نتجنب هذه العقبات فإن وزير الاقتصاد الأسبق يطرح حلا فريدا يمكن الانطلاق منه وهو الاستفادة بتجربة الدول التي حققت نموا مذهلا وأصبحت منتجاتها أرخص بعد أن كانت ظروفها مشابهة لنا في الماضي كالصين مثلا.