في العاشر من أكتوبر الماضي, وبالتوازي مع صدور التقرير السنوي للمفوضية الأوروبية, كان لافتا وهو أمر ربما كان محض مصادفة أن تبث إحدي القنوات الفرنسية المرئية البارزةART فيلما تسجيليا عن تركيا، وقد تجاوز الساعتين, كانت فيه قراءة محايدة ورصد أمين لأوجاع هذا البلد, لكن في أجزاء منه وتلك آفة مزمنة لم يخرج صانعوه إجمالا عن إطار النظرة الغربية الإستشراقية, حتي وأن بدت صحيحة في بعض منطلقاتها, إلا إنها لم تتخلص من تلك الارتجالية الفلكولورية, خصوصا في تأويل جوانب من الحياة الاجتماعية للأتراك. فعلي سبيل المثال لا الحصر, كان واضحا أن الشريط تعمد حشر صور لنساء منتقبات في المشهد الحياتي التركي وكأنه أحد ثوابته, رغم أنهن شريحة قليلة العدد جدا, تري علي استحياء في بعض الأماكن باسطنبول, ونادرا رؤيتهن بالعاصمة أنقرة, فضلا عن أنه لا وجود لهن البتة في قري ونجوع الاناضول, أما الحجاب فكان له نصيب ليس بقليل, دلالة علي تنامي الجنوح الديني, دون أن ينتبه التحقيق التليفزيوني إلي أن غطاء الرأس شائع بالبلاد كتعبير عن ثقافة تقليدية سائدة لدي قطاعات عريضة من المجتمع الاناضولي المحافظ أكثر منه شيء آخر. لكن الذهنية الأوروبية, تبدو وكأنها مصرة علي ألا تخرج عن رؤي يفترض أن الزمن عفا عليها, لرحالة وكتاب ومفكرين تاوبوا خلال قرنين من الزمان علي هذا الجزء الحيوي, بما كان يصطلح علي تسميته آسيا الصغري, والقائمون علي الشريط المتلفز ليسوا استثناء من هذا الادراك الساعي دائما وابدا إلي تكريس مفهوم لدي متلقيهم, مؤداه ان هذا البلد الذي يتحدثون عنه هو وريث رجل أوروبا المريض بكل ما يحمله التوصيف من معان, في اشارة إلي بؤس الامبراطورية العثمانية المنقضية عقودها الأخيرة قبل سقوطها نهائيا علي يد الكماليين( نسبة إلي مصطفي كمال أتاتورك) في مستهل عشرينيات القرن المنصرم. غير أن تركيا الجديدة أقامت حاجز فاصلا مع ماضيها العثماني, ومنذ بداية عهدها الجمهوري العلماني وضعت نصب أعينها نحو الغرب وبشغف بدأت في العمل من أجل اللحاق بالقارة العجوز, وبذلت في هذا السبيل, جهودا مضنية لتغيير تلك التصورات النمطية المأخوذة عنها, واستطاعت بالفعل تبديد بعضها, لكنها في المقابل لم تتمكن من حل إشكاليات عديدة, غير أن العقد الأخير, بدا فيه الإخفاق والتراجع هما العنوانان الاساسيان في مسيرتها نحو حلمها بنيل عضوية كاملة غير منقوصة بالاتحاد الأوروبي, وهنا تبدو المفارقة. ففي الوقت الذي اخذت فيه حكومة العدالة والتنمية علي عاتقها, مسئولية تحقيق ما عجزت الحكومات السابقة عن تحقيقه بصدد هذا الملف إلا أنها في الواقع فعلت كل ما من شأنه أن يبعد تركيا عن الكيان الأوروبي, بل إنها اعادت من جديد شكوكا وهواجس لدي الأوروبيين حيال ما تضمره من نوايا لا علاقة لها بالقيم الاوروبية. فخلال السنوات العشر الأخيرة شهدت حرية التعبير تراجعا مرعبا, وهو ما بات يشكل قلقا بالغا لدي بروكسل التي لم تدع مناسبة خلال الأعوام القليلة الماضية, إلا وتعيد تحذيرها من القيود التي تكبل الحريات في تركيا, هذا فضلا عن عمليات ترهيب ممنهجة تعرض لها أصحاب صحف وفضائيات لتغيير سياساتهم والكف عن انتقاد الحزب الحاكم وزعيمه, كما أن سجلها في مجال حقوق الانسان يشهد هو الآخر انتهاكات وعمليات تعذيب يتعرض لها المواطنون في مراكز وأقسام الشرطة. لكن الشئ الغريب هو أن أجمن باغيش وزير الاتحاد الاوروبي بالحكومة قلل من أهمية تلك الانتقادات مؤكدا إصرار حكومته علي المضي قدما في طلب نيل العضوية, أما اردوغان فقد تجاهل تماما ما أعلنته المفوضية وكأن الأمر لا يعنيه, بل توقع تبوؤ بلاده في الكيان الأوروبي قبل عام2023 الذي سيوافق مرور مائة عام علي قيام الجمهورية. إلا أن ما يدعو للدهشة, هو أن الرجل نفسه, وقبل عشرة أيام, راح يلمح إلي إمكانية عودة عقوبة الإعدام, تلك العقوبة التي لم تنفذ إعتبارا من عام1983, رغم وجودها نظريا بقانون العقوبات, إلي أن الغيت رسميا عقب القبض علي عبدالله اوجلان زعيم منظمة حزب العمال الكردستاني الانفصالية, حتي يفلت الأخير منها, وكان هذا شرطا لتسهيل اعتقاله في نيروبي قبل ثلاث عشرة سنة, وإذا صدق اردوغان في دعوته, فهذا يعني أن انقرة تكون بذلك قد كتبت نهاية علاقاتها وإلي الأبد بالاتحاد الأوروبي.