في المقهي.. مع فنجان قهوه مضبوط او سادة او زيادة.. نثرثر قليلا.. نبدأ بالجدل الذي دار حول قرار إغلاق المحال ليلا وأيضا إغلاق المقاهي التي قال عنها نابليون بونابرت خلال حملته علي مصر: لا يوجد في الشرق الأسطوري من لم يضع وقته في مقهي.. كذلك قال عنها الفرنسي جيرار جورج ليميز في كتابه مقاهي الشرق: أن المقهي لعب دورا مهما في تضميد جراح الشعب المصري. لم يبالغ جيرار.. فعندما كان المذياع في علم الغيب.. كان المصريون في المقاهي يواسون أنفسهم بالاستماع الي قصة الظاهر بيبرس التي ظهرت كرد فعل للغزو العثماني لمصر..وملحمة أبو زيد الهلالي التي انتشرت بعد الثورة العرابية.. وأيضا الاستماع الي قصص ألف ليلة وليلة.. ولم يكن الرواة والمنشدون يحكون هذه الحكايات في ليلة واحدة.. بل في عدة ليال كمسلسلات التليفزيون دون تطويل ومط. لكن الغريب والمدهش.. أن المقاهي مازالت حتي الآن بعد مرور كل هذه السنوات تلعب دورها في تضميد جراح هذا الشعب.. اذا سألتني كيف؟.. فسأقول لك.. تخيل أن الشوارع خالية من المقهي.. فالي أين كان سيذهب العاطلون وخريجو الجامعات الذين مر علي تخرجهم سنوات؟.. والي أين كان سيذهب الشباب الذين لاينتمون للنوادي والمنتجعات؟.. والي أين كان سيذهب الموظفون الذين يكرهون عملهم ويتنفسون الصعداء حين ينصرفون قبل الموعد الرسمي للانصراف وهم يقولون عبارتهم الشهيرة علي قد فلوسهم؟.. والي أين كان سيذهب الأزواج الذين يشعرون بالاختناق داخل عش الزوجية لأن الزوجة كما يقولون نكدية او أنها شريكة غير رومانسية؟.. والي أين كان سيذهب سكان البيوت الضيقة المزدحمة بالإخوة والاخوات.. وأحيانا الجدات والخالات والتي تنقطع عنها الكهرباء بالساعات؟.. والي أين كان سيذهب أصحاب المعاشات ومحبو لعب الطاولة والحرفيون الذين يعملون يوما وينامون يومين؟.. كل هؤلاء تأويهم المقاهي التي تدور داخلها وحولها أحداث هائلة.. ففي اجوائها يتشكل الرأي العام... وتصاغ النكات.. وتتكاثر الشائعات.. وتنعقد الصفقات.. وتنطلق دعاية الانتخابات.. ويبدأ جدل المثقفين وثرثرة العوام وتنصت المخبرين. وتمر السنوات.. وتظهر مقاه.. وتختفي أخري.. لكن يظل في قائمة أشهر المقاهي مقهي الكتبخانة الذي كان من رواده الشاعر حافظ ابراهيم والشيخ عبد العزيز البشري والشيخ حسن الآلاتي.. والأخير كان يرتاد مقهي آخر في السيدة زينب اسمه المضحكخانة.. وكان يشترط علي كل من يطلب الانضمام الي مجلسه فيه ان يقدم له مقالا عن التنكيت فان أعجبه وافق علي دخوله المجلس. كذلك مقهي نوبار الذي كان يقضي فيه عبده الحامولي أمسياته وحوله أصحابه.. منهم باسيلي عريان الذي قيل انه انفق نصف مليون جنيه في هذا المقهي لأنه كان يضيق أحيانا بالزبائن فيطلب من صاحب المقهي اخلاءه منهم علي أن يعوضه الخسارة.. وكانت النتيجة.. ان باسيلي هذا أفلس. ولأن الذهاب الي المقهي كان من الطقوس اليومية للأغلبية.. لذلك ضم كتاب وصف مصر الذي اعدته الحملة الفرنسية جزءا عن مقاهي القاهرة والتي بلغ عددها في ذلك الوقت نحو1200 مقهي. ولأن المصريين يعملون قليلا ويتكلمون كثيرا.. ولأن جراحهم لا تلتئم أبدا.. لذلك هم دائما بحاجة الي مقهي يلقون علي بابه همومهم.. ويبددون بين جدرانه وقتهم.. ويضيعون علي مقاعده عمرهم!. المزيد من مقالات عايدة رزق