هل جربت يوما أن تمسك بالزئبق؟ أبدا لن تستطيع مهما حاولت فقد صيغ الزئبق وعن عمد لكي لا يمسكه أحد, هذا جاء في عالم السياسة. والبعض يمتلك موهبة صياغة شعارات ومواقف وعبارات. مهما حاولت الإمساك بطرف منها تفلت من يديك ليس عنادا وإنما لأنها كذلك. وفي المناخ السياسي اليوم تتصاعد شعارات صنعت من زئبق خالص. بعضها يدعو للتغيير لكنه لايقول لا إلي أين؟ ولا كيف؟ ولا مع من ؟ فإن كنت تريد تغييرا تقف متحيرا بمجرد إعمال العقل لأن كلمة تغيير زئبق لاتعرف إن كان سيقتادك للأفضل أو للأسوأ, ولا إن كانت ستتجه بك يسارا أو يمينا أو حتي إلي أقصي يمين اليمين. ومن الزئبق مايتضح من أن البعض يقول بالدولة المدنية ثم يطالب بشراكة مع من يرفضونها وهكذا. ولعل أقول لعل البعض أرادها كذلك لغرض يتصور أنه مقبول وهو أن يكسب رضاء كل الاتجاهات وهو أمر غير مقبول لا مبدئيا ولا سياسيا ولا حتي فيما يتعلق بمستقبل التغيير المنشود. والأمر ليس اختراعا جديدا فقد عاشت مصر زمنا ولا تزال تعاني من شعارات بمستقبل التغيير المنشود. والعدل الاجتماعي والوحدة الوطنية إلخ.. ولكن كلا منها يفسر بتفسيرات شتي بل ومتناقضة. ولكننا ولكي نكون منصفين ونعود بالأمر إلي أصحابه, أي إلي أصحاب براءة الاختراع الاولي في هذا الأمر, فإننا نقر ونعترف بأن جماعة الإخوان هي الأولي في هذا السباق ومؤسسها الأستاذ حسن البنا هو صاحب براءة اختراع الكلمات الزئبقية وصاحب اختراع القول ونقيضه. ونقرأ بعضا من مبررات منحة براءة الاختراع هذه. ففي نوفمبر1944 نشر الأستاذ البنا مقالا بعنوان نحن في مجلة الإخوان المسلمون جاء فيه قولون نحن في حيرة من أمر الإخوان المسلمين أهي طريقة صوفية أو جمعية خيرية أم حزب سياسي؟. أما نحن الإخوان فقد تجاهلنا هذه المسميات.. ونهجنا منهج الإسلام ووسيلتنا إيمان ومحبة وعمل ولكنه لايلبث أن يعلن وبصوت عال إن الإخوان دعوة سلفية, وطريقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية. راجع نص الخطاب في: أنور الجندي الإخوان المسلمون في ميزان الحق ص15) ثم يعود الأستاذ البنا ليعلن وبذات الحماس أيها الإخوان: أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزبا سياسيا ولا هيئة موضوعية الإغراض محدودة الأهداف, ولكنكم روح جديد, وصوت داو( المرجع السابق ص15) وهكذا كان الأستاذ البنا في كثير من مواقفه, ففي رسالة المؤتمر الخامس ينعي علي الدستور أن في نصوصه ما يراه الإخوان المسلمون مبهما وغامضا ويدع مجالا واسعا للتأويل والتفسير الذي تمليه الغايات والأهواء ويغضب القصر الملكي من المرشد العام فيتراجع سريعا بل ومرتبكا ليكتب مقالا عنوانه الإخوان والدستور ويقول فيه ما كان لجماعة الإخوان المسلمين ان تنكر الاحترام الواجب للدستور باعتباره نظام الحكم المقرر في مصر, ولا أن تحاول الطعن فيه, أو إثارة الناس ضده وحضهم علي كراهيته. ماكان لها أن تفعل ذلك وهي جماعة مؤمنة مخلصة, تعلم أن إهاجة العامة ثورة, وان الثورة فتنة وأن الفتنة في النار( مجلة النذير العدد33) ولكنه وما أن يستشعر ان القصر الملكي قد أصبح بحاجة الي تعديل دستوري يعطي الملك سلطة شاملة, حتي يستجيب ويكتب لابد من جديد هذا الجديد هو تغيير النظم المرقعة والمهلهلة التي لم تجن منها الأمة غير الانشقاق والفرقة. وهو تعديل الدستور تعديلا جوهريا بحيث توحد فيه السلطات( حسن البنا رسالة نحو النور) وطبعا سيكون توحيد السلطات سبيلا لوضعها جميعا في يد الملك. وفيما يتعلق بالموقف من الأحزاب السياسية نجد ذات الموقف الزئبقي. ففي الثامن عشر من ربيع الأول1357 ه تقدم وفد من الإخوان المسلمين بخطاب إلي جلالة مولانا الملك ليلتمس فيه العمل علي إصلاح الأحزاب السياسية في هيئة واحدة ذات برنامج اصلاحي إنشائي يرتكز علي قواعد الإسلام وتعاليمه, وحسبنا ما لاقينا من بلاء الحزبية وعناء الانقسام السياسي. ذلك أن الحزبية السياسية التي تفشت بين الناس فرقت الكلمة ومزقت الوحدة, وأفسدت الأعمال فالضرورات التي أوجدت التعددية الحزبية قد إنتهت ولم يبق منها شيء. فلا معني إذن لبقاء الأحزاب( النذير30 ربيع الأول1357) لكن حسن البنا كان في غمار ذلك كله وبينما يردد رغبات القصر الملكي ويدعو لحزب واحد يكون هو نفسه قائدا له, كان يمد كلتا يديه لأحزاب الأقلية في نهايات الثلاثينيات وكلتا يديه لحزب الأغلبية في1942. وفي ذات الوقت أخذ يدين جوهر النظام الحزبي رافضا احزابا متعددة او حتي حزبا واحدا. ففي رسالة المؤتمر الخامس يقول يعتقد الإخوان أن الحزبية قد أفسدت علي الناس كل مرافق حياتهم وأتلفت أخلاقهم وعطلت مصالحهم ومزقت روابطهم. ويتعين العمل علي تغيير النظام البرلماني من أساسه بحيث يرفض الحزبية التي هي المانع من تقدم الأمة والمعول الذي يهدم كل خير فيها.. ولا مناص بعد الآن من أن تحل هذه الأحزاب جميعا وهكذا يمضي الزئبق ليحاصرنا فتارة ضد الدستور وتارة معه وتارة ضد التعددية الحزبية, ومع قيام حزب واحد ووحيد وتارة ضد الحزبية أصلا. وهكذا فإن كان زئبق العمل السياسي يتجدد ويتنوع بحيث نراه مع أطراف جديدة أو مع أطراف قديمة فإن صاحب براءة الاختراع يظل هو مؤسس الجماعة. وليس أمامنا إذا تحدثوا الآن عن الديمقراطية وضرورة التعددية إلا أن نسألهم هل يتجاسر أحدكم بنقد لكلمة او حرف أو فكرة مما ردده المرشد الأول رفضا للحزبية؟ بل هل يتجاسر علي اختياره واحده من أقواله المتناقضة مع بعضها البعض ونفي الأخري؟ أم أن الزئبق السياسي لم يزل سيد الموقف؟ عزة