في النقاش العام الراهن حظيت باهتمام, تستحقه دون ريب, مواد الدستور حول مدنية الدولة والحريات العامة وحقوق المرأة وأوضاع القضاء, كما طرحت وعدلت في الجمعية التأسيسية وحتي صيغت في المسودة الأولي. لكنه, وللأسف, وسواء داخل الجمعية التأسيسية أو في النقاش العام, تكاد لم تحظ بالنقاش الواجب مواد الدستور, الحاضرة أو الغائبة, ذات الصلة بمنطلقات ومرتكزات وغايات النظام الاقتصادي الاجتماعي في مصر. وقد رصدت ملمحا من ملامح فقدان الاتجاه الاقتصادي في مسودة الدستور المطروحة في مقالي السابق, عن خطيئة إلغاء النص علي المسئولية التنموية والمجتمعية والوطنية للرأسمالية. وأتوقف في هذا المقال عند ملمح آخر وهو قصور وغموض المواد المحددة وبوضوح لمرتكزات وتوجهات النظام الاقتصادي الاجتماعي الجديد, الذي يؤسس لدولة المواطنة, ويحمي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنة دون إقصاء أو انتقاص. وفي يقيني أن الاشتباك مع هذا القصور والغموض ليس فقط ضرورة مبدئية لقطع الطريق علي استمرار الغدر بثورة25 يناير, وللاستجابة لشعاراتها الخالدة المنادية بالعيش والحرية وا66لعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وإنما هو ضرورة عملية أيضا, لتحقيق الاستقرار, اللازم للإستثمار والتنمية, بدءا من اعطاء الأمل للجماهير المنخرطة في إضرابات واعتصامات واحتجاجات لن تنتهي; ما لم تقتنع بأن مطالبها المشروعة في سبيلها الي التحقيق. ومع قراءة مسودة الدستور أجدني أكرر الآن ما كتبته في مقالي عن التوجه الاقتصادي في التعديلات الدستورية, المنشور بجريدة الأهرام في3 ديسمبر2008 محذرا من أن أخشي ما أخشاه أن تأتي التعديلات الدستورية المتصلة بالاقتصاد والمجتمع علي نحو يهدد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تكفلها حقوق المواطنة, اذا دفعت نحو اقتصاد حر مزعوم في سياق مطاردة أشباح الاشتراكية! وفي سياق تعديل المواد ذات الصلة بالتوجه الاقتصادي للدولة آنذاك أعلنت أنني لا أعرف كيف يمكن أن تتم التعديلات الدستورية بغير ان تطال الدستور كله؟ فما العذر في غياب إعلان قاطع بهوية النظام الاقتصادي الاجتماعي بعد أن أتاحت ثورة25 يناير فرصة لم تكن سانحة قبلها لوضع دستور جديد؟. وقد تضمن دستور1971, قبل تعديلاته, التي استهدفت تحقيق مشروع التوريث في ارتباطه بدعوة السوق الحرة سيئة السمعة, عشر مواد تشير الي الاشتراكية; بدءا من النص في المادة الاولي علي أن مصر دولة نظامها اشتراكي ديمقراطي, وفي مادته الرابعة أن الأساس الاقتصادي لجمهورية مصر العربية هو النظام الاشتراكي الديمقراطي. أضف الي هذا تسعة مواد أخري توكد التوجه الاشتراكي للدولة, وعشر مواد تؤكد علي إدارة عملية التنمية بأساليب التخطيط المركزي الشامل, وبقيادة القطاع العام. وأخيرا, فقد توزعت علي أبواب الدستور مواد تشدد علي حماية المقومات والقيم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية والثقافية للاشتراكية والتوجه الاشتراكي! وقد تم حذف اللغو عن' الاشتراكية' في الدستور, وأعلنت بوضوح أن هذا الحذف لا يستحق الوقوف عنده, لأنه يتناقض مع الواقع المصري; سواء إبان صعود ما سمي بالتطبيق العربي للاشتراكية في الستينيات, أو بالأخص مع التراجع الخجول عنه, بالتمسح الزائف في الاشتراكية الديمقراطية مع تبني سياسة الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات. وفي سلسلة سابقة من المقالات أعلنت وأكرر الآن أن سقوط نظم الاشتراكية الماركسية مع السقوط المدوي للمنظومة الشيوعية السوفيتية لا يعني بحال من الاحوال سقوط قيمة العدالة الاجتماعية. وقلت وأؤكد أن الحياة قد برهنت علي تفوق اقتصاد السوق مقارنة باقتصاد الأوامر, لكنني أعلنت وأكرر أن الشيطان يكمن في التفاصيل! فعلينا أن نعرف أي اقتصاد سوق قد انتصر؟ وأن نحدد أي اقتصاد سوق نريد في مصر؟ وفي الإجابة عن السؤالين علينا استيعاب حقيقة سقوط الأصولية الرأسمالية في زلزال الأزمة المالية والاقتصادية العالمية. لكن عدم كفاءة تخصيص الموارد وعدم عدالة توزيع الدخل, أي الحصاد البائس والمرير للأصوليتين, الاشتراكية والرأسمالية, كانت وراء انتصارات: الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا, والحزب الديمقراطي في أمريكا, والاحزاب اليسارية في أمريكا اللاتينية. وقد نصت المادة13 من مسودة الدستور علي ما يهدف اليه الاقتصاد الوطني, وهي غايات لا خلاف عليها. بيد أنه قد غاب عنها إعلان أن تحقيق هذه الغايات يشترط تكامل أدوار الدولة والسوق, وقطاعي الأعمال العام والخاص. وهنا كان يتوجب التعلم الإيجابي من خيار اقتصاد السوق الاجتماعي, والموجه والمتقدم والمفتوح. وقد نصت المادة18 في المسودة علي أن تكفل الدولة الأشكال المختلفة للملكية المشروعة, العامة وغيرها, ونصت المادة19 علي حرمة الأموال العامة. لكن المسودة تجنبت أي ذكر للقطاع العام وقطاع الأعمال العام, وكأنهما رجس من عمل الشيطان!! ولنتذكر أن ما يوصف بالمعجزة الاقتصادية الصينية يوضح أن التقدم بساق القطاع الخاص لم يرتبط ببتر ساق القطاع العام! وبناء نظام اقتصادي اجتماعي جديد يرتكز بالضرورة الي توافق ديمقراطي وطني, ولذا فان علي الدستور وبدون لبس أن يوفر الحماية غير المشروطة للحقوق والحريات العامة ويقلص سطوة السلطة التنفيذية ويوسع دور السلطة التشريعية ويحمي استقلال السلطة القضائية ويعزز شفافية عمل الأجهزة الرقابية. لكن عليه أن يربط بين حفز ربحية المشروعات وربحية المجتمع, بتوفيره للضمانات التي تؤكد التزام قطاع الأعمال, الخاص والعام, بالمسئولية التنموية والمجتمعية والوطنية, وتعزز دور منظمات المجتمع المدني في حماية حقوق العاملين والمستهلكين والبيئة والمنافسة. كما غاب عن الدستور النص علي وجوب تدخل الدولة لمواجهة اخفاقات السوق, وخاصة بقيادة الدولة للتنمية الشاملة والمستدامة عبر السياسات والتشريعات والاستثمارات. وبغير هذا وغيره, مما يستحق تناولا لاحقا, فان نصوص الدستور لاتدفعني سوي الي ترديد قول الشاعر العربي: ما أنت والوعد الذي تعدينني.. إلا كبرق سحابة لا تمطر!!. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم