إذا كانت التضحية أبرز معاني عيد الأضحي وتتجسد في ذبح الأضاحي في أيام محددة إلا أن هناك معاني أخري أشمل وأرقي وأبقي طول العمر من هذا المعني الظاهري علي الرغم من قداسته. إن النسك غالبا ما تحمل معاني خفية وأسرارا عميقة في باطن شكلها وظاهرها, فالأضحية كنسك, كما أشار القرآن لكل أمة جعلنا منسكاهم ناسكوه لا يمكن أن يتوقف معناها عن حد الذبح والتوزيع والتصدق والإهداء وحسب لا.. الأمر أكبر من هذا بكثير. الأضحية مرتبطة بالحج فمجرد أن ينوي الحاج أداء الفريضة يقوم بالتضحية, يخلص ماله الحرام والمشتبه فيه, ويضحي بكل هذا في سبيل حج مبرور وذنب مغفور ثم الجنة وهو مقابل عظيم. ثم يلبس الحاج ملابس الإحرام وفيها أيضا من التضحية الكثير حين يضحي بهوي النفس في الملابس الغالية والناعمة والمرفهة ويلبس ملابس بسيطة موحدة لأشهرة فيها ولا إسراف ولا زينة ولا خيلاء. الحاج حين يلبس هذا اللباس المتواضع لباس الإحرام يضحي فيها بالأنانية وحب الذات في سبيل الحج المبرر والجنة. حين يطوف الحاج حول الكعبة ويواجه الزحام والتدافع الذي قد لا يحتمل وقد لا يبرر لكن من أجل الحج المبرور ومن أجل الجنة علي الحاج أن يضحي بشيء من قوته وعنفوانه, ويذهب بعيدا عن التدافع والتزاحم ويطوف في سكينة وحلم وإن كلفه ذلك المشقة والوقت وكل هذا من أجل لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج. كذلك يضحي الحاج بشهوته الخاصة حين يمتنع عن زوجته التي ترافقه في حجه, وما ذلك إلا من أجل الحج المبرور وتضحية مقدسة من أجل الجنة. الحاج الفيلسوف الذي لم يكن يتوقف عن الكلام والنقاش قبل الحج يضحي بشهوة الكلام حين يتوقف عن الجدال وما ذلك إلا من أجل الحج المبرور ومن أجل فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج. الحاج المغرور بعلمه والذي لم يكن يكف عن الحزلقة والفزلكة قبل الحج عليه أن يقبل حجرا ويرمي آخر وهو بذلك يضحي بآفة الغرور أمام أسرار الله في مناسكه وخلقه ليخرج من حجه ذليلا منكسرا لله متواضعا لعباده. أمثلة كثيرة تؤكد علاقة الحاج وتضحيته بالكثير من أجل الحج المبرور والجنة, في عرفات قف هنا ولا تقف هناك, قف من وقت كذا إلي وقت كذا ولا تقف في وقت كذا أو كذا لا تقطع شجرة ولا تقتل حشرة, إرم الجمار بعدد محدد وفي أيام محددة.. مناسك محكمة تربي الحاج علي أكبر معني من معاني التضحية, معني التضحية بالذات لله تعالي ليتحقق الاستسلام والعبودية المطلقة. تلك التضحية والمناسك في الأراضي المقدسة ينبغي أن نعيشها جميعا بوجداننا وتعاطفنا ولحمتنا معهم الآن بل وطوال العام, وإلي أن نلقي الله وهذا معني جديد من معاني الأضحية الذي يتجاوز الذبح والدماء في شكله الظاهر إلي ذبح وإراقة دماء كل الرذائل والأهواء والنزوات وكل خلق ذميم وسلوك قبيح. أيام العيد أيام فرح وسرور ومرح ولهو برئ لايفسد الأخلاق ولا ينفي الاعتدال ولكن الواقع غير ذلك. ففي أيام العيد لا يتوقف الأطفال ليلا أو نهارا عن الألعاب النارية من صواريخ ومفرقعات وبمب وغير ذلك ويصدر عنه أصوات مرعبة و مزعجة بل وإصابات, أين الآباء من هذا؟ مشغولون بذبح وأكل الأضاحي عن ذبح سوء الأخلاق وتفلت الأبناء عليهم أن يضحوا بشيء من وقتهم وجهدهم لمراقبة ابنائهم وتعليمهم لنعيش جميعا مجتمعا آمنا سعيدا. كم من المتخاصمين من الأهل والأخوة وأصحاب الرحم الكل مشغول بذبح الاضحية عن ذبح شيطان الفرقة وهوي النفس والكبر, ولو حدث ذلك وقام هولاء بهذه الأضحية لساد السلام والوئام والحب. كم من أصحاب الأموال يتباهون بكثرة الذبح والتوزيع والصدقات وهذا أمر محمود لكن الأفضل ذبح شيطان التهم وجمع المال من حلال أو حرام, لو فعلوا ذلك لكان خيرا لهم وللأمة كلها. الأمثلة كثيرة.. إن المال هو أهون ما يضحي به الإنسان غير أن التضحية بالأهواء والتوازع هي التي تحتاج الي همة وصبر وتربية وأحسب أن هذا المعني جدير بأن يضاف الي معاني الأضحية, الأضحية الدائمة التي لا تفارق الإنسان وتجعله رقيبا علي نفسه ينال الأجر كل لحظة, يساهم في بناء أمته ومجتمع وأهله ونفسه وعندها يسود الخير ويعم السرور, فحين تضحي بأسباب الخصام يسود الحب والوئام, وحين نضحي بأسباب التباعد وقطع الأرحام ينتشر الود ويسود السلام, وحين نضحي بشهوة الأنا وحب السلطة والزعامة, تسود الوحدة وقوة البنيان, حين نضحي بالحرام لابد وأن يسود الحلال وتتنزل علينا رحمة الرحمن. المزيد من مقالات اسماعيل الفخرانى