عاشت مصر المحروسة في العقود الأربعة الأخيرة جدلا واسعا بشأن الخصخصة وأفضليتها علي القطاع العام. وفي السياق نفسه اقتحم القطاع الخاص مجال التعليم واعتبره مجالا للربح الوفير وقد أدي هذا إلي تعرض النشء المصري إلي ما اعتبره خللا تربويا لحق بأغلي ما نعتز به وهو هويتنا العربية الإسلامية. من مرحلة الروضة إلي باقي مراحل التعليم وصولا إلي الجامعات. لقد كان المجتمع المصري ينظر بشئ من الإعجاب إلي طلاب وطالبات المدارس العامة, علي عكس أقرانهم ممن يلتحقون بالمدارس الخاصة. بكل أسف انقلبت الحال منذ سنين طويلة, ولعلها بلغت حد استعلاء خريجي المدارس والجامعات الخاصة علي أقرانهم في التعليم العام. لن أتناول في السطور التالية مزايا كل من النظامين العام والخاص في قطاع التعليم. سأكتفي هنا بأن أعرض لنموذج صارخ عايشته كأب مع الملايين من الآباء والأمهات, واعتبرته دليلا قاطعا علي خطورة ترك الحبل علي الغارب للقطاع الخاص في نظام التعليم المصري. ففي أواخر عهد أحمد فتحي سرور عندما كان وزيرا للتعليم, انتشرت في المجتمع المصري موضة مدارس اللغات. أصبحت كل الأسر المصرية المتطلعة إلي مستقبل واعد لأبنائها وبناتها حريصة علي إلحاقهم بمدارس اللغات وخاصة المدارس الخاصة. والعجيب أن وزارة التربية والتعليم انساقت وراء هذه الموضة فحولت بعض مدارس تابعة لها إلي ما يشبه مدارس اللغات وأطلقت عليها اسم المدارس التجريبية. ولأن مصر غنية بالمخلصين من أبنائها في كل تخصص, فقد قرر عدد من أساتذة التربية المحترمين في أكثر من جامعة التصدي لهذه الموضة. وفوجئنا كأولياء أمور بحملة صحفية مضادة في جريدة الأهرام بشأن خطورة هذه المسألة. في هذه الحملة أثبت علماء التربية أن تدريس اللغات الأجنبية في مرحلة الروضة والابتدائي خطأ تربوي مدمر لعقلية الطفل في سنوات عمره المبكرة. أتذكر أن الحملة الصحفية استمرت أياما. وقد أدلي فيها جميع أطراف العملية التعليمية بآراء مؤيدة بحجج قوية للغاية. وقد قررت أنا شخصيا بعد هذه الحملة الصحفية أن أعيد النظر في حالة أبنائي ممن كانوا يدرسون في إحدي مدارس اللغات الخاصة الشهيرة. وبالفعل قررت تحويلهم من الدراسة باللغة الإنجليزية إلي القسم العربي بالمدرسة نفسها.أثمرت الحملة الصحفية قرارا سياسيا أصدره وزير التعليم أحمد فتحي سرور بمنع تدريس اللغات في المرحلتين التعليميتين الحضانة والابتدائي. وقد تنفست وكثيرون من أمثالي أولياء الأمور الصعداء. وقلت لنفسي إن في مصر وزيرا حريصا علي هوية وعقلية الأجيال الجديدة. وحمدت للرجل استجابته لنصيحة ومشورة أهل الذكر أساتذة التربية. لم يمض سوي شهر تقريبا بعد صدور هذا القرار إلا و ألغي. ويا فرحة ما تمت كما نقول في الأمثال. في مدة الشهر هذا تنادي المضارون من القرار, وهم أصحاب مدارس اللغات الخاصة. فعقد القوم اجتماعات ونشروا بعض الإعلانات التحريرية في عدد من الصحف. كان من الواضح أن قرار الوزير تسبب في ضرر كبير لهؤلاء الناس. فقد صدر قرار الوزير في نهاية موسم دراسي ومع قدوم إجازة الصيف. ومن المؤكد أن كثيرين من أولياء الأمور ممن عرفوا وقرأوا عن خطورة تدريس اللغات في مرحلتي الروضة والابتدائي قد أحجموا عن إلحاق أطفالهم بمدارس اللغات. وهكذا فبدلا من أن يربح أصحاب مدارس اللغات الملايين التي أعدوا أنفسهم لتلقيها مع بدء موسم التقديم للمدارس, إذا بهم صفر اليدين. أقام السادة هؤلاء الدنيا نشرا وحملات مضادة وضغوطا علي وزارة التربية والتعليم. ومن أسف فقد استخدم اصحاب المدارس الخاصة بعض الصحف والصحفيين للطعن في علمية وصحة رأي علماء وخبراء التربية والتعليم. وفجأة لحست وزارة التربية ووزيرها القرار بلا أدني حياء ولا اعتبار للصالح التربوي العام. هل رأيتم ماذا يحدث إذا تعارضت مصلحة أشخاص أو فئة قليلة من أغنياء مصر مع مصلحة الشعب الثابتة علميا وسياسيا؟