كنت في السابعة عشرة من عمري يوم قام ضباط يوليو بانقلابهم, ولم أكن أنهيت بعد دراستي المتوسطة في مدرسة المعلمين, وكنت لا أزال أقيم مع أسرتي في ريف المنوفية. وهذه كلها شروط لم تكن تسمح لي بفهم ما حدث علي حقيقته, ومعرفة من كان وراءه, والتنبؤ بمستقبله. سن صغيرة, وثقافة محدودة, ووسط ريفي بسيط. صحيح أن مصر كلها في ذلك الوقت الذي أعقب نهاية الحرب العالمية الثانية كانت تموج بنشاط عارم خلاق نفذ إلي كل المجالات, وشاركت فيه كل الطبقات والفئات, وشاركت أنا فيه أيضا بقدر ما أتاحته لي ظروفي فانفتحت لي أبواب وظلت أخري موصدة. لقد أتاحت لي هذه الظروف أن أتمكن من اللغة, وأقرأ بنهم, وأحب بلا أمل, وهكذا بدأت محاولاتي الأولي في الشعر الذي كنت أسر إليه بما لا أستطيع إعلانه, كما بدأت تجربتي الأولي في السياسة, إذ وجدت نفسي أتعاطف مع الإخوان المسلمين الذين كانوا بحكم ايديولوجيتهم الدينية أقدر من غيرهم علي مخاطبة الشبان الريفيين المتعلمين وإثارة عواطفهم, خاصة وقد بدوا لنا في تلك السنوات مجاهدين يحملون السلاح دفاعا عن فلسطين, ثم أصبحوا بعد حل جماعتهم واغتيال مرشدهم سجناء مضطهدين, ومن خلال هذه الظروف نظرت إلي انقلاب يوليو. لم أؤيده ولم أعارضه وكان هذا هو موقف عامة المصريين منه في البداية, حتي عندما جاء عبدالناصر ليزور شعبة الإخوان المسلمين في شبين الكوم ويجلس معهم بسترته العسكرية علي الحصير المفروش لصلاة العشاء, لأني في ذلك الوقت نحو عام1953 كنت قد حققت في الشعر خطوات شجعتني علي مواصلة طريقي فيه, وكنت في حاجة للتحرر العقلي الذي أبعدني عن الإخوان حلفاء الانقلاب وقربني من الأحزاب والجماعات التي طالبت ضباط الجيش بالعودة إلي ثكناتهم وتسليم السلطة للمدنيين, وقد رد ضباط الانقلاب علي هذه الجماعات بعنف شديد تعرضت له مع الكثيرين, إذ كان الضباط الذين تشبثوا بالسلطة قد منعوا المظاهرات, فقدت مظاهرة تحديت فيها هذا المنع وأن راعيت أن أهتف للوطن واستقلاله وتجنبت أي هتاف مستفز, لكنهم استدعوني ليرسلوني في سيارة عسكرية إلي سجن قرة ميدان في القاهرة حيث قضيت نحو شهر, ولم يطلق سراحي إلا بعد استدعاء والدي واستكتابه تعهدا بألا أقوم بأي نشاط سياسي, وقد تسبب هذا الاعتقال في وضع اسمي في قائمة المعارضين للنظام الذين حرموا من تولي أي وظيفة حكومية, ومنعوا من السفر, وهكذا اضطررت بعد تخرجي للبحث عن وظيفة أخري غير التدريس وجدتها في دار روز اليوسف وفي مجلة صباح الخير التي صدرت عام1956, ورب ضارة نافعة, فلو لم أمنع من التدريس لما سرت في هذا الطريق الذي قادني إلي القاهرة ومنتدياتها الأدبية ومؤسساتها الصحفية حيث تغير كل شيء في حياتي, ولعبت دوري المقدر لي في الشعر والحياة. *** في أواخر سنة1955 وكنت لا أزال أطرق أبواب القاهرة باحثا عن عمل نظمت قصيدتي القصصية مذبحة القلعة التي صورت فيها ما حدث للمماليك علي يد محمد علي. وقد تعاطفت في هذه القصيدة معهم, واعتبرتهم فرسانا نبلاء استدرجهم خصمهم بنذالة وأوقع بهم, ولاشك أن المماليك في هذه القصيدة كانوا يرمزون للضحايا الذين نكل بهم عبدالناصر. غير أن إقامتي في القاهرة واتصالي بالأوساط المثقفة والجماعات اليسارية التي عدلت موقفها من عبدالناصر بعد اتفاقه مع الانجليز علي الجلاء, ومشاركته في مؤتمر باندونج, وعقده صفقة الأسلحة مع تشيكوسلوفاكيا هذه التحولات فرضت علي موقفا آخر عبرت عنه في القصيدة التي نظمتها يوم وقف عبدالناصر يعلن قرار تأميم القناة, لقد سميتها عبدالناصر لكنها كانت في الجماهير التي انطلقت تعلن فرحتها بهذا القرار الذي تحررت به من ذل طويل. فلتكتبوا يا شعراء أنني هنا/ أمر تحت قوس نصر/ مع الجماهير التي تعانق السني/تشد شعر الشمس تلمس السماء/كأنما تفتحت أمامها نوافذ الضياء. ثم جاءت الستينيات بأحداثها المتتالية, الانفصال السوري, وقرارات التأميم, والسد العالي, وحرب اليمن, وسواها من الأحداث الكبري التي بدت لنا كأنها ثورة حقيقية, وبوحي من هذه الأحداث نظمت قصيدة أقول فيها إنني لا أغني لفارس مغامر, ولا لقديس ملاك, وإنما أغني للإنسان الذي رأيته يوم الأمان مثله يوم الخطر. ثم كانت قصيدتي الثالثة التي نظمتها عنه حين أعيد انتخابه رئيسا للجمهورية عام1965 وفيها أقول له: أخاف أن يكون حبي لك خوفا عالقا بي من قرون غابرات/ فمر رئيس الجند أن يخفض سيفه الصقيل/لأن هذا الشعر يأبي أن يمر تحت ظله الطويل! ثم أختتمها بقولي: يظلمك الشعر إذا غناك في هذا الزمان/لأنه لا يستطيع أن يري مجدك وحده بدون أن يري/ما في الزمان من عذاب وهوان! وهكذا, في الوقت الذي كنت أعبر فيه عن حبي لعبدالناصر الذي كانت تشاركني فيه الملايين, كنت أعبر عن رفضي لنظامه وما نلقاه فيه من العذاب والهوان, وهذا الموقف وقفته علي الدوام من نظام عبدالناصر, وعبرت عنه في معظم شعري الذي نظمته في الستينيات, عبرت عنه في قصيدة الدم والصمت, فالشهداء المصريون يجودون بأرواحهم في اليمن,, والسلطات تمنع نشر نعيهم في القاهرة, وعبرت عنه في قصيدة السجن. لي ليلة فيه/وكل جيلنا الشهيد/عاش لياليه/فالسجن باب ليس عنه من محيد وعبرت عنه في قصيدة الأمير المتسول وفي إشاعة وفي قصيدة لا أحد وفي دماء لومومبا. وفي رثائي لعبدالناصر في قصيدة الرحلة ابتدأت هجوت القائمين علي نظام عبدالناصر وسميتهم مماليك وعسسا صغارا, واعتبرت موته قطيعة مع نظامه المتسلط, وارتماء في أحضان الجماهير التي حملت نعشه وشيعته إلي مثواه الأخير, أما في مرثية للعمر الجميل التي قلتها في الذكري الأولي لرحيله فقد اعترفت بأن ماظننته حقيقة لم يكن إلا وهما, وأخذت أسأله: من تري يحمل الآن عبء الهزيمة فينا/المغني الذي طاف يبحث للحلم عن جسد يرتديه/ أم هو الملك المدعي أن حلم المغني تجسد فيه؟!. ولقد أجاب الزمن عن هذا السؤال, فالذي حسبناه ثورة لم يكن إلا انقلابا. والفساد الذي كنا ننسبه للمحيطين بعبدالناصر لم يكن إلا النظام الذي استبد فيه عبدالناصر بالسلطة, فإذا كنت قد عجزت عن أن أري في أيام عبدالناصر ما آراه الآن فأنا لم أكن العاجز الوحيد, ثم إني من القلائل الذين خدعوا في عبدالناصر ونظامه دون مقابل, فلم أحصل علي رشوة, ولم أعين في وظيفة, بل اعتقلت في أيامه مرتين, وفصلت بسببه من عملي الصحفي في أيام السادات. ولهذا أجد القدرة الآن علي مراجعة نفسي وتصحيح موقفي. وهذا حقي علي نفسي, وحق الناس علي, فعلي الكاتب الذي يحب أن يصدقه قومه أن يكون أمينا معهم, يصحح لهم الخطأ الذي وقع فيه حتي لا يواصلوا الوقوع فيه!.