اختار نصر حلاً خاصاً به لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وسط هذا المناخ القاتل لخلايا التفكير، حمل حقائبه واتجه إلي هولندا استجابة لدعوة من جامعة ليدن، واستمرت رحلته أكثر من خمسة عشر عاما عاماً لم يزر فيها مصر إلا نادراً. "أنا رجل من غمار الموالي، فقير الأرومة والمنبت| فلا حسبي ينتمي للسماء، و لا رفعتني لها ثروتي". لم يكن الدكتور نصر ابوزيد يمل من تكرار هذه الأبيات لصلاح عبد الصبور من مسرحيته الشهيرة " مأساة الحلاج". كانت تحمل إجابة لكل من يسأل عن حياته، ونشأته وتكوينه، كما كان يبدأ بها ندواته. ولد أبوزيد " كآلاف من يولدون، بآلاف أيام هذا الوجود لأن فقيراً بذات مساء سعي نحو حضن فقيرة و أطفأ فيه مرارة أيامه القاسية". وبالفعل أيضا .. " ذوبت عقلي، و زيت المصابيح، شمس النهار علي صفحات الكتب| لهثت وراء العلوم سنين، ككلب يشم روائح صيد| فيتبعها، ثم يحتال حتي ينال سبيلا إليها، فيركض| ينقض | فلم يسعد العلم قلبي، بل زادني حيرة راجفة| بكيت لها و ارتجفت| و أحسست أني ضئيل كقطرة طل| كحبة رمل| و منكسر تعس، خائف مرتعد| فعلمي ما قادني للمعرفة| و هبني عرفت تضاريس هذا الوجود" وربما هي المصادفة أيضا أن " الحلاج" هو المتحدث في قصيدة عبد الصبور الشهيرة، كان مصيره مشابها إلي حد كبير مع مصير ابوزيد. أفلت أبوزيد من كل المصائر التي أرادها له الآخرون. كان يمكن أن يكون شيخا أزهريا، كما أراد والده المعجب بالشيخ الإمام محمد عبده، ولكن مرض الوالد وإدراكه أن ابنه البكر ينبغي أن يعول الأسرة منعه من الالتحاق بالأزهر. كان من الممكن أن يصبح عضوا فاعلا في جماعة " الإخوان" المسلمين التي انضم إليها صغيرا، ولكنه أدرك مبكرا أن عليه أن يسير في طريق آخر. كان يمكن أن يستمر موظفا صغيرا مهمته إصلاح " أجهزة اللاسلكي" بعد أن تخرٌج في "معهد فني لاسلكي"...ولكن طموحات الشاب كانت أكبر من أن يتم استيعابها، فقرر أن يعمل ليعول أسرته، وأن يواصل دراسته الثانوية في المدارس الليلية وينتسب إلي الجامعة تحديدا كلية الآداب. كان يمكن أن يكتفي بما حصله من التعليم، ويعمل مدرسا في أيه مدرسة، ولكن حارب من أجل أن يعمل معيدا في الجامعة بعد اعتراضات عديدة من الأساتذة، ولكنه دافع عن تفوقه وحقه في أن يصبح " أكاديميا". كان يمكن _ بعد تعيينه في كلية الآداب مثل آلاف الأساتذة في الجامعة- أن يملي علي طلابه ما يقرأ في كتب الآخرين، ويطبع المذكٌرات ويبيعها لهم. لكنٌ نصر اختار أن يفكٌر خارج السرب، ويتجاوز خطوطا حمراء، وضعها بعض المتزمٌتين والظلاميٌين الذين لا يسمحون لأحد بتهديد سلطتهم ومكتسباتهم ولكن كيف أفلت من هذه المصائر..ربما محاولة رصد البدايات يحمل إجابة علي السؤال. كان والد نصر الفلاحة، وتعلم القراءة والكتابة وافتتح محل بقالة صغير في قريته قحافة، وعندما بلغ نصر السابعة مرض الوالد مرضا شديدا، وفي سن الرابعة عشر استدعاه الأب وطلب منه أن يدخل دبلوم الصنايع حتي يستطيع أن يعيل الأسرة، لم يستطع نصر ان يناقشه في رغبته بأنه يريد أن الثانوية من أجل الالتحاق بكلية الآداب قسم اللغة العربية ..هو نفسه لم يكن يعرف لماذا قسم اللغة العربية بالذات، أدرك بعد ذلك أنه كان يقرأ بسرية في ذلك الوقت المنفلوطي ويوسف السابعي ونجيب محفوظ ( لم يكن مسموحا في الريف المصري قراءة أي شئ خارج المناهج الدراسية). مات الأب ..والتحق نصر بالفعل بالدبلوم .. وعمل في البوليس ليعول الأسرة، ولكنه لم ينسي الأدب مطلقا! في عمر العاشرة التحق باشبال " الإخوان المسلمين" وتم اختياره اختياره لكي يشارك في استقبال مرشد الجماعة وقتها أثناء زيارته لبلدته المحلة "..كان صوته جهوريا، يهتف أهتف الله أكبر و لله الحمد..وحين مررت أمام المنصة رفعني أحد الرجال ووضعني أما الهضيبي شخصيا، فصافحني وأعطاني بوصلة هدية وقال أرجو أن تهديك في حياتك". بل وتم القبض عليه والتحقيق معها وقتها ولكن لم يستمر نصر طويلا في " أشبال الإخوان" ..عندما قرأ كتاب " معالم علي الطريق " لسيد قطب أدرك أن عليه أن يسير في طريق آخر. عندما عمل في البوليس مهمته إصلاح أجهزة اللاسيلكي انتقل للاقامة في المحلة، وهناك التقي محمد صالح وسعيد الكفرواي .. جمعت ثلاثتهما محبة الأدب، وكان نصر وقتها يكتب شعر بالعامية المصرية، وكانت أمنيته أن يغير مجري الأغنية المصرية . كانت "شلة المحلة"، التي ضمت فيما بعد مجموعة الأصدقاء: جابر عصفور، محمد صالح سعيد الكفراوي، محمد فريد أبو سعدة ، وجار النبي الحلو ومحمد المخزنجي والمنسي قنديل تطلق علي نصر أبوزيد:" صلاح جاهين المحلة" ليس فقط لتكوينه الجسدي الذي يشبه إلي حد كبير الشاعر الشهير، ولكن لمحاولاته المهمة في كتابة قصيدة عامية مختلفة عما كان يتم كتابته وقتها، بل إنه نشر أول دراسة نقدية له حول :" أزمة الأغنية المصرية" 1964. يقول سعيد الكفرواي :" كنت أول من التقي نصر، كان ذلك عام 1964، ومن يومها لم نفترق". يضيف سعيد : " كان معنا رجل اكبر سنا هو زكريا التوابيتي، حصل علي جائزة نادي القصة، جمعنا قصر ثقافة المحلة وقمنا بتكوين جماعة الأدب التي ضمت رمضان جميل، وصلاح الصياد ومحمد صالح". بعد ذلك بعام جاءنا جابر عصفور كان قد انتهي من الدراسة بكلية الآداب..وكان كل فرد في الجماعة يحمل سؤاله الخاص، لم يكن اهتمام نصر وقتها منصبا فقط علي الشعر، بدا اهتمامه بالتراث العربي والإسلامي، وقراءته المتعمقة في علم الحديث، كان بداخله وهج يجذبه إلي الإسلام وخاصة مع تعاطفه وقتها مع جماعة الإخوان المسلمين التي كان زكريا التوابيتي عضوا فيها". من خلال جابر عصفور _ كما يقول الكفراوي:" بدأنا نطل من شرفتنا الريفية علي أول علاقتنا بالماركسية وأول تعرفنا علي مناهج النقد الأدبي الجديد". وكان علي نصر أن يعيد صياغة تعليمه، فبدأ في الدراسة الليلية للحصول علي الثانوية، وكنت في ركابه ..ولكن " حصل نصر علي مجموع، ولم أحصل أنا، والتحق هو بكلية الآداب بينما ظللت في المحلة، وسبقني إلي القاهرة بشهور". يرسم الروائي جار النبي الحلو وجها آخر لنصر في تلك الفترة.. " دخلت انا والمنسي قنديل وفريد أبوسعده إلي قصر الثقافة متأخرا، وجمعتنا بنصر علاقة حميمة ..حتي أنه كنا نسهر في غرفته فوق السطوح بالمحلة حتي الصباح نتناقش في الأدب والثقافة ". ولكن لماذا لم يستمر في شاعرا للعامية؟ يجيب جار:" نصر طوال عمره مشغول بالفكر، ربما وجد من هم أشعر منه وتوقف". يتوقف جار النبي قليلا قبل أن يضيف:" هزيمة يونيو كانت قاسية جدا علينا، أثرت فينا بشكل مباشر، في تلك الفترة واءدت الهزيمة أحلامنا، كسرتنا، وغيرت اهتماماتنا، ولهذا ربما اصبحنا اكثر انشغالا بالأفكار والسياسة والدين والفن". " النكسة" كانت إذن هي الدافع الأكبر الذي غير وجهة أبوزيد من الشعر إلي الفكر .. ولكن كانت " أمنيته " أن يكون ناقدا ادبيا ..وكان أول دفعته في كلية الآداب. ولكن أساتذته أخبروه أن قسم الدراسات الإسلامية لا يوجد به متخصصون، وأنهم في حاجة ليستكمل دراسته العليا بالقسم. فأخبرهم أنه يخشي أن يكون مصيره مثل من سبقوه: طه حسين،أمين الخولي، ومحمد أحمد خلف الله ، ولكنهم أخبروه بأن هذا لم يكن سوي خلاف بين الأساتذة ولا علاقة له بالفكر. فعشق أبوزيد التحدي، وواصل دراسته ليحصل علي الماجستير والدكتوراة في الدراسات الإسلامية. وهكذا لم يستمر أبوزيد موظفا، ولا شاعر عامية، ولا ناقدا أدبيا، ولكنه أصبح " باحثا" كما يصر ويؤكد دائما. مهتم بفهم الظاهرة الدينية في تاريخيٌتها لا أكثر" .. باحث يطرح أسئلة لا يقدم إجابات .. عندما طرح أبو زيد تلك الأسئلة في أبحاثه حول " نقد لخطاب الديني" التي قدّمها للترقّي في الجامعة عام 1993، قامت الدنيا ولم تقعد وجد ابوزيد نفسه مطلوباً وكان أمامه خياران: أن يذهب إلي المحكمة ويعلن تراجعه عن أبحاثه التي أثارت الجدل وينعم بالتالي بحماية المؤسسة الدينية، أو أن يرمي نفسه في أحضان المؤسسة السياسية التي تريد أن تستخدمه في معركتها ضدّ تيارات التأسلم. كلا الحلّين كان سيضمن له الحماية التي افتقدها بعد تكفيره... وكلاهما أيضاً كان اعترافاً منه بالهزيمة أمام محتكري الحقيقة المطلقة والسلطة المطلقة. اختار نصر حلاً خاصاً به لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وسط هذا المناخ القاتل لخلايا التفكير، حمل حقائبه واتجه إلي هولندا استجابة لدعوة من جامعة ليدن، واستمرت رحلته «المنفي الثقافي» أكثر من خمسة عشر عاما عاماً لم يزر فيها مصر إلا نادراً. أثناء هذه الأزمة، كان بإمكانه حل المشكلة. فقط ان يذهب إلي المحكمة وينطق بالشهادتين. ولكنه لم يفعل: " لم أكون أريد أن أؤسس لسلطة تبحث في قلوب الناس". المفارقة أنه عندما أضطر للخروج إلي هولندا، في أول محاضرة له، بدأ بالبسملة ونطق الشهادتين. " كنت خائفا أن يتم استقبالي في أوروبا بإعتباري متمردا عن الإسلام، وأنا لست كذلك، نطقت بالشهادتين حتي أقول لهم إذا كنتم تحتفلون بي لأنكم تعتقدون أنني ضد الإسلام فذلك خطأ، لأنني باحث من داخل دائرة الحضارة العربية الإسلامية". هكذا هو منذ البدايات حياته مغامرة انتهت ولكن كما يريد هو لا كما يريد الآخرون!