هل هذا معقول؟ هل يعقل أن يتقدم أحد ببلاغ للنائب العام طالبا التحقيق ليس مع الخارجين علي القانون وانما ضد الهيئة العامة لقصور الثقافة والكاتب الكبير جمال الغيطاني رئيس تحرير سلسلة الذخائر التي تصدرها الهيئة ؟ وألا تتعلق التهمة باختلاس المال العام مثلا أو التهرب من تنفيذ حكم قضائي وانما نشر إحدي روائع الأدب العربي التي تربت عليها أجيال وراء أجيال من القراء, ألا وهي كتاب ألف ليلة وليلة؟ وهل يعقل أن تكون حيثيات التهمة أن المتهمون يعملون بذلك علي نشر الفسق والفجور بين الناس؟! قد يكون هذا غير معقول لكنه حدث, وحدث في عصرنا هذا, في القرن ال21 الذي نعيشه وليس في أحد عصور التخلف والانحطاط التي عرفناها في الماضي, بل حدث منذ أيام معدودة حيث تقدم نفر من المحامين يتبعون جميعا مكتب محاماة واحدا ببلاغ للنائب العام للتحقيق في تلك التهمة التي لابد أنهم يرونها تمثل أكبر خطر يواجه مجتمعنا في الوقت الحالي, مخالفين في الرأي البعض الآخر الذي يهتم بمشاكل أخري أقل أهمية علي مايبدو من الفسق والفجور مثل المطالبة باصلاح الحياة السياسية وتعديل الدستور وعقد انتخابات نزيهة, بينما انصرفت بعض الفئات من موظفي الهيئات العامة إلي ما هو أقل أهمية من الأثنين معا وهو المطالبة برفع الأجور في وقت ارتفعت فيه الأسعار بشكل مطرد علي مدي السنوات الأخيرة, بحيث لم يعد الموظف الحكومي يستطيع الوفاء بالتزاماته المعيشية الأولية. لكن أخواننا الذين تقدموا ببلاغهم هذا لابد أنهم يرون التاريخ من باب خلفي مترد يري أن نشر أمهات الأدب الروائي في العالم هو ما ينبغي أن نتصدي له في الوقت الحالي بكل حزم وعزم قبل أي قضية أخري. إن كتاب ألف ليلة وليلة ليس مجرد قصص تسلينا عليها ونحن أطفال وانما هو من أهم الكتب في الأدب الانساني بشكل عام, بل إن كتاب الديكاميرون للايطالي بوكاتشيو والذي يعتبر مع كوميديا دانتي الإلهية من عيون الأدب الايطالي التي أثرت علي الآداب العالمية هو في رأي بعض النقاد الغربيين اقتباس لألف ليلة وليلة, كما أن أديب نوبل العظيم جابرييل جارثيا ماركيز يعترف صراحة بفضل ألف ليلة وليلة علي كتاباته. لقد كان لألف ليلة وليلة منذ ترجمت لأول مرة إلي اللغات الأجنبية في القرن الثامن عشر تأثير واسع في الآداب العالمية, بل وفي سائر الفنون الأخري مثل الموسيقي, فوضع الموسيقار الروسي العبقري ريمسكي كورساكوف متتاليته العظيمة شهر زاد والتي تعتبر اليوم من أشهر المؤلفات الكلاسيكية في العالم, كما امتد تأثير ألف ليلة وليلة بعبقريتها السردية إلي الفنون التشكيلية والعروض المسرحية أيضا. وكما هو معروف فإن ألف ليلة وليلة مجهولة المؤلف ويذهب البعض إلي أنها تراث شعبي صاغته العبقرية الجمعية في عهد يبدو أنه كان أكثر رقيا وتقدما واستنارة من عصرنا الحالي الذي لم يعد يحتمل فيه البعض مثل هذا العمل الفني الرائع, وصار يعتبره جريمة أخلاقية ينبغي الابلاغ عنها والمطالبة بمعاقبة من يجعلونها في متناول الناس ضمن ذخائر تراثنا القومي. صحيح أن ألف ليلة وليلة بها إشارات لأمور جنسية, لكن من قال إن الأدب يجب ألا يشير إلي الجنس؟ إن الأدب والفن بشكل عام لا يعبر إلا عن الحياة, والأديب لا يمكن أن ينظر للحياة وإحدي عينيه مقفلة, بل إن عظمة الأدب تزداد وقيمته الانسانية ترتفع كلما احتوي العمل الأدبي الحياة برمتها ولم يحصر نفسه في قطاع واحد منها, تلك هي السمة الأولي للأعمال الخالدة في تاريخ الأدب الإنساني. وشأن الأدب في ذلك هو شأن الدين أيضا الذي لا تنصب تعاليمه علي جانب واحد من الحياة وانما هو يقدم رؤية فلسفية متكاملة للحياة بكل أبعادها بما في ذلك الجنس والزواج والعلاقة بين الانسان وأخيه الانسان, بالاضافة للأمور الروحانية التي تتعلق بعلاقة العبد بربه. ولاشك أن الدين الاسلامي الذي أصبح الآن أكثر الجهلاء يتحركون باسمه وهو منهم براء, هو أكثر الأديان خوضا في أمور الدنيا, إلي جانب الآخرة والأمور الجنسية التي ترد في القرآن الكريم ليست إلا دليلا واضحا علي شمولية العقيدة الاسلامية التي لم تترك أمرا في الحياة إلا وتطرقت إليه, وربما كان هذا هو مادعي للحديث الشريف القائل بأن ذكر الأعضاء الجنسية ليس محرما وإنما المحرم هو كشف عورات المسلمين. إن العبرة تكون بالهدف الذي من أجله يشار إلي الجنس وليس الجنس في حد ذاته, فالجنس موجود في الأدب كما في الدين, وفي الطب كما في الفلسفة, والهدف في كل هذه الحالات هو هدف نبيل يتعلق بالارتقاء كما في الأدب أو بالمعرفة كما في الطب, أو بتنظيم أمور الناس وفق منظومة أخلاقية كما في الدين, والفرق بين كل ذلك وبين الأباحية ليس في الموضوع وانما في المعالجة, فمعالجة الجنس في الأدب كما في سائر الفنون تختلف اختلافا بينا عن مثيلتها في المواد الإباحية ورقية كانت أو تصويرية, وتمثال رودان الشهير القبلة الذي يمثل رجلا وامرأة عاريين يقبلان بعضهما بعضا والمعروض علي الجمهور العريض في متحف رودان بباريس يختلف تماما عن الصور الجنسية التي قد تمثل نفس الوضع لكنها تباع في السر للمراهقين. إن القضية هي قضية الفهم الخاطيء للآداب والفنون والذي يأتي من تصدي غير المتخصصين لما هو بعيد عن تخصصهم بينما هناك المئات, بل والآلاف ممن أمضوا السنين يدرسون الأدب ونظرياته والفن وفلسفاته وحصلوا في ذلك علي أعلي الدرجات العلمية من مختلف جامعات العالم, فكيف لمن لم يدرس إلا القانون أن يتصدي لما هو ليس متخصصا فيه. ثم القضية هي قضية من يتصورون أنهم أوصياء علي هذا المجتمع, فيحددون ما يقرأه الناس من آداب وما يشاهدونه من فنون بينما لم ينصبهم المجتمع أوصياء عليه ولا اختارهم رقباء. والقضية هي أيضا قضية مجتمع اختلط فيه الحابل بالنابل, وأصبح من حق أي جاهل بما يتحدث أن يتصور نفسه مبعوث العناية الإلهية له الحق أن يستخدم كلمة الله عز وجل في التعبير عن تخلفه الفكري وترديه الثقافي الذي يسعي لأن يفرضه علي الناس جميعا, مستخدما الدين والقانون الذي وضع لحماية حرية الناس وحقها في الاختيار, وذلك بعينه هو الفسق والفجور.