كتب:مكاوي سعيد: ليس المقصود بالعنوان بدايات التعرف علي الكذب, وممارسته بناء علي رغبة الأهل كحالنا ونحن اطفال نخبر القادم إلي زيارة الوالد بأنه غير موجود كما طلب منا ذلك. أو نؤمن علي كلام الأم وهي تحادث جارتها وتتحجج بمرضنا, أو ارتفاع درجة الحرارة التي شغلتها عن زيارة الجارة, وتجد نفسك متورطا في الموافقة علي ما ادعته الأم وأنت ترقب اتساع عينيها وجذبة يديها وهي توجه لك كلامها: مش كده يا واد.. ولا المقصود أيضا ممارستنا التدميرية والتخريبية كالذي كنا نفعله في سبيل الحصول علي الإسفنج من أجل صنع الكرة الشراب التي كنا نلعب بها في الشوارع.. كنا نختار الأتوبيسات الجديدة ونقطع تذاكر حتي آخر الخط, ونراقب الركاب وهم ينزلون تباعا في محطات وصولهم, وقبيل نهاية الطريق يكون الأتوبيس قد خلا معظمه من الركاب.. نتكدس نحن في الكنبة الخلفية.. بعضنا يراقب الكمساري أو الركاب الذين قد يلتفتون لما نفعله, وأحدنا منهمك بالموسي يقطع وسادة الكنبة التي نجلس عليها ويسحب الإسفنج منها, ثم يبدأ في توزعيه علينا لنخبئه أسفل قمصاننا ملاصقا للبطن, وفي محطة الوصول الأخيرة ينتابنا فرح غامر بما فعلناه, وإذا كانت حصيلتنا قليلة نكرر ما فعلناه في أتوبيس العودة, كنا نخرب الممتلكات العامة دون تأنيب ضمير وببلادة عجيبة, كلما فكرت فيها أتعجب من حالنا آنذاك.. ما أقصده التعرف علي الكذب و الاحتيال من أشخاص يبدو علي سيماهم الورع والتقوي, كالذي حدث لي أثناء المرحلة الإعدادية عندما أخبرني زميل الدراسة بأن والده قد قدم أوراقه للدخول في القرعة التي قد تسمح له بأن يحج في هذا العام, وبعدها بأيام طلب مني مرافقته لحضور القرعة وسط أهله وبعض الجيران, وفي اليوم المحدد لإجراء القرعة ذهبنا سويا إلي وزارة الشئون الاجتماعية لأنها المقر الذي تجري فيه هذه القرعة, كان أبوه مسئولا كبيرا حينها لذا جلسنا في الصفوف الأولي مع باقي العائلة, بدأت المراسم وصديقي يحدثني وكله يقين بأن والده سيكون من أوائل المختارين, وحانت لحظة الاختيار وتقدم شخص كله مهابة ووقار ناحية صندوق القرعة, ثم دس يده في الصندوق وأخرجها بأول ورقة وعليها اسم والد صديقي, انطلقت الزغاريد والتصفيق وتتابع الاحتفال بنفس الوتيرة. غادرت المكان وأنا علي يقين بأن في الأمر ما يريب, ولم أهدأ وظللت أضغط علي صديقي حتي اعترف لي بأن الورقة التي أخرجها المسئول من الصندوق كانت ملفوفة وموضوعة سلفا في خاتم المسئول, وأنه عندما دس يده في الصندوق سلتها بإبهامه وأخرجها إلي الحاضرين.. أرقتني هذه المسألة جدا وأنا في بدايات تكويني.. كيف نستخدم الغش والاحتيال وسيلة للحصول علي شئ مقدس؟.. وكيف نتمم الدين بالزور والبهتان؟ في المرحلة الثانوية حدث شئ مغاير..كان لي زميل قد ورث عمارة كبيرة في أحد الأحياء الراقية, وكان أحد السكان يؤجر في تلك العمارة شقة بإيجار مفروش لأجل غير محدد, ويبدو أن هذا الساكن كان مصدر عكننة لأهل صديقي, ويريدون إخراجه بشتي الطرق, وفي سبيل ذلك رفعوا عليه قضية طرد بدعوي أنه يضايق السكان ويجلب إلي شقته أشخاصا سيئين ويصطحب فتيات.. الخ, وفي أواخر الجلسات طلب منهم القاضي إحضار شهودا يؤكدون سوء سلوك الساكن, ألح الزميل علي وصديق آخر بأن نحضر للشهادة, وظل يعدد لنا مساوئ الساكن, وكلما تراجعنا اتهمنا بالندالة وقلة الشهامة, فكيف لا نساعد صديقا لنا في حاجة إلي المساعدة ونتركه يخسر الشقة أمام هذا الساكن المستهتر, نجح الصديق في النهاية في الحصول علي موافقتنا, وظل لأيام يحفظنا الشهادة, وكنت أعرف العمارة جيدا فأنا أذاكر أحيانا مع هذا الصديق الذي يسكن في الطابق الرابع بينما الساكن المراد تطفيشه يسكن في الطابق الثاني, حفظنا الشهادة ورددناها أكثر من مرة وكنا نسير بخيلاء أنا والصديق الآخر ونبتسم كلما قابلنا أحدا من أهل الصديق صاحب المشكلة, كأننا نقول لهم اطمئنوا.. نحن رجالة لن تخسروا هذه القضية. الموقف كان عصيبا فهذه أول مرة اكون فيها في قاعة محكمة وأواجه هذا الجمع الغفير, حاولت الهروب أكثر من مرة لولا محاصرة الصديق, بدأت وقائع الجلسة بالخلاف وأسبابه ومرافعات المحامين, ثم حان وقت استدعاء الشهود ونودي علي الأسماء وكنت أولهم, سألني القاضي عما رأيته فوصفت وأسهبت فيما لاحظته من سلوكيات سيئة للساكن المذكور, قلت إنني كنت أسمع ضحكات ماجنة صادرة من شقته أثناء صعودي للاستذكار عند صديقي, ورأيته أكثر من مرة وبصحبته فتيات يرتدين ملابس مكشوفة, واصطدمت به مرة وأنا أصعد الدرج فسقط كيس كان بيده ووقعت منه زجاجات بيرة, كان القاضي يسمعني بإنصات ووجهه يفيض بالاهتمام, ثم سألني: هل انتهيت؟.. أومأت برأسي.. قال: يعني إنت كده تعرفه كويس؟.. هززت رأسي.. قال بهدوء: شاور عليه كده في المحكمة, وكأنك رميت بنفسك في حوض سباحة واذ بك تفاجأ بأنه فارغ من المياه, صدمت وكلما أعاد القاضي السؤال.. كنت أدير رأسي يمينا وشمالا كأني أبحث عن الشخص المقصود, ففي الحقيقة غاب عن صديقي أن يعرفنا علي هذا الساكن أو يدلنا عليه حتي من بعيد لكي نحفظ ملامحه, ازداد توتري ثم حدث لي أمر عجيب.. ظللت أضحك بهستيريا وبلا توقف.. أدرك القاضي الورطة التي أنا فيها فهدأني وسألني عن دراستي, وعندما تأكد من أنني مازلت طالبا في الثانوي صرفني وهو يقول بأن في مقدوره أن يحبسني, لكن حفاظا علي مستقبلي سيتركني هذه المرة.. صديقي خسر الشقة طبعا وأنا ما عدت لأذاكر معه, وما عدت أتورط في الكذب والغش. * العنوان مستلهم من عنوان السيرة الذاتية الرائعة للشاعر الكبير عفيفي مطر(أوائل زيارات الدهشة) [email protected]