لكي تستطيع أن تتذوق هذا العمل لابد أن تنسي قليلا مصطلح الرواية وتتذكر الاسم الأقدم والأشمل الذي صاحبك منذ الطفولة: حكاية. في البداية كنت أطلب من هذه الرواية أن تعطيني شخصيات تشبه الواقع, لها ملامح تميزها مستمدة من حياة كل يوم, شخصيات مركبة ومتناقضة كأصدقائنا وأقاربنا وأعدائنا, هو خيال نعم, لكنه يشبه الحقيقة علي قول صديقي الشاعر محمد كشيك. لقد عودتنا الرواية علي هذا, ولكن الحكاية أمر يختلف. الحكاية يعني عفاريت ألف ليلة وليلة وبساطها السحري وخاتم سليمان وطاقية الإخفاء; يعني الشاطر حسن وست الحسن والجمال; يعني شخصيات أحادية الأبعاد تمثل فكرة أو عاطفة أو حلما أو معني, أو لا تمثل شيئا: فقط الشوق إلي الحكي, وقيمة الحكي والحاجة المحضة إلي الحكي. إن رواية منال القاضي الجديدة حكايات المدينة السرية( روايات الهلال- مايو2012) هي في جوهرها حالة حكي مركبة, كأنها ضفيرة من جدائل شتي وشرائط ملونة من حرير, يجمعها شبق الإنسانية للكلام. هي حالة من الحكي الجمعي كألف ليلة, نسقتها شهرزاد معاصرة حاولت أن تصنع من التاريخ الممزوج بالأسطورة أقاصيص من خيالها هي لكنها في نفس الوقت تتماشي مع الوجدان الجمعي للإنسانية, وبالذات الشرق الأدني, ثم ما يجاوره من حضارات البحر الأبيض المتوسط. ورغم وجود حواديت تنتمي أحداثها للعصر الروماني, فإن خطة العمل تشير إلي الشرق دون لبس. فبنية الرواية أولا شرقية( مدينة من الحواديت), والفكر الذي تعكسه شرقي, يغلب الحس والخيال علي العقل التحليلي المجرد, وهو في هذا نسوي أيضا, فهذا العمل هو بامتياز إبداع امرأة. الناي يقول ما لا يستطيع أن يقوله سامعه أو عازفه, ويفتح مغاليق القلوب والألسنة بسحر لا يغالب. الأغنية والعطر والرقص والعين والجديلة هي الفاعلة والمؤثرة والقهارة في حكايات الرواية أمام الشيخوخة والحكمة و العلم. الخيال و اللاوعي وأساطير الشرق قد يكون فيها الخلاص: للشرق و الغرب معا. وتطرز الكاتبة في نسيج العمل- قرب النهاية- مشهد ميدان التحرير الذي راقبه الغرب المأزوم بانبهار, ويري بعض الغربيين فيه مصدرا للإلهام وبابا للخروج من الأزمة. وتنهي منال القاضي عملها بهذه السطور: عزف الناي, وانسابت نغماته, وكان العالم يستمع في ذهول ويتجه نحو الشرق, وباب الخروج يظهر ويختفي. إن باب الخروج يظهر ثم يختفي في الفصل الأخير من الرواية. والمقصود هنا الخروج من المدينة السرية. وبمعني أعمق الخروج من المأزق, الوطني أو الإنساني. وتري الكاتبة- كغيرها من المصريين- أن سبب اختفاء الباب وغياب الرؤية المتكرر هو ذلك الصخب الشامل دون أن نسمع بعضنا البعض. لكن هذه النهاية للعمل لا تعني أننا إزاء رواية سياسية. إننا في الأساس إزاء حالة حكي, أو نافورة حكي انفجرت نتيجة تراكم جوفي من روافد التاريخ والأساطير والأشواق والتجارب لتصنع في النهاية شيئا لا يشبه الحياة لكنه يمتلئ برحيقها. ولسوف أتعمد هذه المرة ألا أحكي لك هذه الألف- حكاية- في- حكاية, لأني لو فعلت لظلمتها وظلمت نفسي, لكني سأكتفي بأن أقول لك بأن هذه الحكايات مثل قطرة الماء التي زارتها الشمس, أو تلك الحالة الخرساء التي تتلبسك حين تهزك موسيقي, أو الشعر الذي يطربك وتعتقد أنك تستطيع أن تكتب مثله فتعجز- كيف بالله أستطيع أن أحكي لك هذا؟ كيف ألخص الشعر أو أترجم الموسيقي؟ الأسهل أن تبحث عن هذا الكتاب وتستمع إلي الحكايات من فم شهرزاد. المزيد من أعمدة بهاء جاهين