جوهر الشوارعيزم كما تعرفون هو الاستقواء, وإطاحة الأعراف والتقاليد, والقوانين, والمعايير.والحقيقة أن حالات الاستقواء تعددت في البلد علي نحو أشعرنا جميعا بالخوف إزاء تآكل ما نشأنا وربينا في إطاره. وإزاء ذلك الوجود الجديد البديل الذي تهندسه القوي الاقتصادية والسياسية الصاعدة, وقد بدا هدفه الأول استلابنا قيمنا وقناعاتنا, وعقائدنا المهنية والوطنية, تحت غطاء ومباركة قوي دولية لاتريد مصر/ كبيرة, وتضغطنا بوحشية في اتجاه مصر/ صغيرة. علي أية حال... كانت الصحافة المصرية في أحوالها الصحية والصحيحة أحد رؤوس الجسورالتي نعبر عليها إلي مصر/كبيرة. إلا أن هذا المعني تعرض مؤخرا لكثير من الأخطار حين شحب حضور, وخفت صوت أعراف تلك المهنة وأصولها علي نحو يدفع الصحافة المصرية, لا بل ويدفع البلد كله إلي معني:( مصر/صغيرة)!! وكنا ومازلنا نقول إن الصحافة الخاصة تستطيع( إذا استقامت مقاصدها) ان تكون عنصر حيوية جديدا يدفع بصناعة الصحافة إلي أفق تطور( تقني/طباعي) و(تحريري/ مهني) و(فكري/ ثقافي) و(سياسي/ وطني) و(مالي/ اقتصادي). وكنا ومازلنا نقول إن الصحافة الخاصة( إذا خلصت نواياها) تستطيع أن تكون عرابا يقود البلد نحو اكتشاف كوادر وكتاب جدد, ووسيلة لاختبار قوة وفاعلية منظمات المجتمع المدني الطالعة, وأوعية لإثارة تيارات من الوعي عند الناس حول القضايا الوطنية الحقيقية في محاور( التنمية) و(التنوير) و(الديمقراطية) عبر نقاش موضوعي محترم وليس بالهلضمة التي تبغي التحريض علي الفوضي, وتحويل منابر الصحف الخاصة إلي أدوات لتسميم الحياة العامة وترويع الناس, واعتبار أن مأثرتها الكبري هي القدرة علي تصفية خصوم ملاكها أو رؤساء تحريرها. وعلي الرغم من اقتناعنا بكل ما سبق فإننا نلمح بوادر أخطار كبيرة, تكتنف طبيعة الأدوار التي تقوم بها الصحافة الخاصة تدفعنا إلي القيام بواجبنا في التنبيه, وأظنني بلغت عتبة في ساحة الصحافة المصرية تسمح لي بالتوجيه والتعليم. ولن أتكلم اليوم عن السلبيات التقليدية للصحافة الخاصة التي تحدثت عنها غير مرة مثل:( الاغراق في المحلية), أو( اهتزاز الدقة), أو( خلط الرأي بالخبر), أو( المبالغة), أو( التحريف). ولكنني أكتب عن مسألة تدخل في صميم أعراف المهنة وتقاليدها, التي لاينبغي أن نسمح للاستقواء بإطاحتها. إذ ثارت ضجة كبيرة مؤخرا نتيجة قيام صحيفة( المصري اليوم) الخاصة بالركوب علي سبق صحفيscoop لجريدة( الوفد) الحزبية, يتعلق بقضية منظورة أمام محكمة واشنطن حول قيام شركة مرسيدس برشوة بعض المسئولين في دول معينة لتعظيم مبيعات الشركة, وضمن أوراق المحكمة اتهامات نسبت إلي بعض الشخصيات المصرية. وأنا لن أتورط هنا في المضمون القانوني والإداري المتعلق بتلك القضية, ومدي صحة الاتهامات المنسوبة إلي شخصيات عامة, إذ أحتاج قبل أن أخوض غمار هكذا مناقشة تحصل الكثير من المعلومات ومن أطراف مختلفة حتي أستطيع بلورة حكم حول الملف. ولكنني سأعمد إلي مناقشة الجزء المهني في القصة, وهو المرتبط بأن جريدة الوفد انفردت, علي نحو واضح لا لبس فيه ولأيام متواصلة وعبر مقالات معلوماتية تحليلية لرئيس تحريرها الأستاذ سعيد عبدالخالق, وقصص إخبارية وتحقيقات ترصد ردود أفعال خبراء ونجوم سياسيين وأكاديميين علي ما تم نشره. ثم فجأة قفزت المصري اليوم علي تلك القضية مدعية السبق لنفسها. ونعرف بالطبع أن هناك ما يطلق عليه( لعبة تبادل الكرة) بين صحيفة وأخري, أو بين صحيفة ومحطة تليفزيون, أو بين جريدة صباحية وأخري مسائية, بحيث تستكمل إحدي هاتيك الوسائل ما نشرته الأخري أو تتابعه. ولكن المصري اليوم للأمانة لم تستكمل أو تتابع, وإنما أعادت كتابة وطبع ما نشرته الوفد من معلومات مع بعض تحريف ركيك, أو محاولة افتعال وجود مصدر آخر لنفس المعلومات, ومن دون إشارة واحدة لصحيفة الوفد( وربما يدخل ذلك في إطار الشجار بين جريدة المصري اليوم وحزب الوفد والذي بلغ مكتب النائب العام وساحات المحاكم ولكن الانسياق وراء مقتضيات الشجار الدائر بدلا من الالتزام بأعراف المهنة هو أمر معيب من دون شك). يعني علي سبيل المثال والقياس مع الفارق انفردت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية في بداية سبعينيات القرن الماضي, وعبر اثنين من صحفييها هما وود ورد وبرنشتاين بقصة تجسس وتنصت الحزب الجمهوري علي المقر الانتخابي للحزب الديمقراطي في بناية ووترجيت علي نهر الباتوماك في واشنطن, وهو ما عرف بفضيحة ووترجيت, التي أفضت إلي استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون علي أن يكمل نائبه جيرالد فورد بقية مدته في الحكم, وقد تحولت تلك القصة إلي عدد من الشرائط السينمائية أشهرها كل رجال الرئيس من بطولة داستن هوفمان ونيكسون من بطولة انطوني هوبكنز. ومعروف أن المصدر الرئيسي لقصة وود ورد وبرنشتاين) كان أحد العاملين في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية(CTA) وهو ما أطلق عليه الصحفيان( الحلق العميق Deep-throat).. وبالقطع فإن عددا من الصحف الأمريكية, والوكالات ومحطات التليفزيون تبع الواشنطن بوست في النشر, ولكن بإضافة جديد إلي القصة علي النحو الذي تسمح به إمكانيات كل وسيلة صحفية ومصادرها, أو عبر تصنيع بعض ردود الأفعال علي القصة في الكونجرس أو البيت الأبيض, أو غيرها. يعني الشرط هو إضافة( جديد), وإلا فإن إعادة نشر المعلومات يقتضي الإشارة إلي المصدر الأصلي وهو الواشنطن بوست, والتي كانت لديها وسيلة معلومات لاتضاهي من حيث قوتها وموثوقيتها وهي( الحلق العميق بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية). نهايته... (المصري اليوم) لم تضف جديدا إلي قصة( الوفد), ولم تجد في نفسها رغبة في أن تشير إلي الوفد باعتبارها التي انفردت بتلك المعلومات, وعلي نحو أثار انتباه بعض القائمين بالاتصال في البرامج السياسية التليفزيونية مثل الأستاذ حمدي رزق في محطة أوربت, والأستاذة دينا عبدالرحمن في قناة دريم, والأستاذ شريف عامر في قناة( الحياة) فأشاروا إليه بطرق متنوعة, أو ألمحوا. وقد اتصلت بناشر المصري اليوم الذي يملك معظم أسهمها المهندس صلاح دياب( وهو صديق عزيز) وتحدثت معه مطولا في الأمر, وعلي الرغم من أنه يشير دائما إلي انه لا يتابع كل كلمة تنشرها جريدته, وإنما تقع مثل تلك الأمور في الجهاز التحريري للصحيفة وفي نطاق مسئوليته المباشرة, فإنني ذكرته بحوادث سابقة مثل قيام( المصري اليوم) بنشر قصيدة انفردت بها جريدة( الشروق) للشاعر الأستاذ فاروق جويدة, بادعاء انها أذيعت تليفزيونيا ليلة النشر, بما يعني أن الصحيفة لها سوابق, كلما تكررت, كلما صارت أمرا واقعا, تستند إليه في وقائع مشابهة حالية أو مقبلة. هذا النزوع بقول واحد يدفعنا إلي دعوة الصحيفة, بل كل الصحف إلي التزام الأعراف المهنية الصحيحة, لأن( المصري اليوم) صحيفة ناجحة, وقد كتبت مرات عن بعض أداءاتها التي شعرت فيها بأنها تراعي تقاليد مهنية صحيحة مثل نشرها تصحيحات لما تقع فيه من أخطاء التزاما بمسئوليتها نحو القارئ, ولكن هناك مسئولية أخري إزاء شركاء المهنة ينبغي علي( المصري اليوم) أن تراعيها. وأنا بالقطع لا أحب أن يوصف تصرف تلك الجريدة الخاصة علي انه( لصوصية) أو( سرقة), ولكنه ببساطة يسمي مجافاة للأعراف أو سوء سلوك مهنيIndustrial-misconduct. وهناك تاريخ طويل في مصر حول عمليات استيلاء صحيفة علي نتاج عمل صحيفة أخري, وعلي حقوق ملكيتها الفكرية, وربما كان واحدا من أشهر المواقف المتعلقة بهذا الملف هو صراع الأهرام, ودار التحرير للطبع والنشر( الجمهورية) عام1969 علي حقوق الملكية الفكرية لنشر مذكرات الماريشال زوكوف بطل الاتحاد السوفيتي الذي قاد عملية الارتداد الروسية الشهيرة ضد النازي في نهايات الحرب العالمية الثانية بعد هزيمة موسكو النكراء في بدايات تلك الحرب. وبالطبع كان هناك هدف سياسي لنشر المذكرات في ذلك التوقيت هو رفع روح الشعب المصري المعنوية, وضرب الأمثلة له بأن الأمم العظيمة قادرة علي تحقيق الانتصارات حتي وإن تعرضت لهزائم كبري. وكان هناك بعد سياسي آخر للصراع بين الجمهورية والأهرام يتمثل وقتها في سيطرة مجموعة التنظيم السياسي( الاتحاد الاشتراكي العربي) علي الجمهورية, ومعاداتهم لما يمثله الأهرام في عملية( تشكيل القرار السياسي بالرأي) وهو علي أي حال صراع تواصل حتي ما سمي بثورة التصحيح في مايو1971. ولكننا في عودة إلي أعراف التعامل مع السبق الصحفي نقول إن صراع الأهرام والجمهورية كان له بعد قانوني يتمثل في حيازة إحداهما لتعاقد يسمح لها بالانفراد بالنشر, أما في وضع( المصري اليوم) و(الوفد) فنحن أمام حالة استقواء أطاحت التقاليد المهنية التي نعرفها, وهو بالقطع ما يحتاج منا جميعا وفي كل الوسائط الصحفية الحكومية, والحزبية, والخاصة, إلي مراجعة, وإلي تأسيس كود أخلاقي متكامل يلزمنا كلنا بطرق التعامل في هكذا حالات, وأظن أن نقابة الصحفيين المصرية مطالبة( ضمن الأدوار التي تقوم بها في التعليم المهني) أن تنظم بضع دورات للعاملين في الجرائد( كوادر وقيادات) يحاضر فيها رموز الصحافة وشيوخها عن الزامات المسئولية المهنية كما عرفناها العمر بطوله وهي ما نخشي عليه من التعرض هو الآخر للعصف والإطاحة!.