في ثورة مثل ثورة25 فإن من أهم المنجزات التي تخرج من رحمها هي الدستور, وذلك لسببين. الأول, رمزي يتعلق بالثورة ذاتها, باعتبارها حالة فارقة بين عصرين وبين مسيرتين, الدستور يجب أن يمثل الثورة فيستحق اسمه دستور الثورة, ومن ثم كنت من المتحفظين علي هؤلاء الذين يقولون إن الدستور يمكن أن يكتب في ساعات.. هكذا كان يدعي البعض. لكن الأمر علي غير ذلك, دستور الثورة يجب أن يعكس معني الثورة المباركة منذ ديباجته, لأنه ليس وثيقة فحسب تحكم التصورات المتعلقة بنظام الدولة وحقوق المواطنة, بل هو توثيق حقيقي لحدث عظيم ألا وهو ثورة25 يناير, ديباجته يجب أن تتحدث عن هذه الثورة ودوافعها, والثورة ومكتسباتها, والثورة وحمايتها, والثورة وغايتها, الدستور يجب أن تكون كلماته مسكونة بروح هذه الثورة وشعارها الأساسي العبقري عيش, حرية, كرامة إنسانية, عدالة اجتماعية, فتخرج كلماته ومواده ومنذ الديباجة تعيد الاعتبار لثورة قام البعض عن عمد بتشويهها أو بالتشويش عليها. أما السبب الثاني, فهو يتعلق بوظيفة الدستور ومقاصده الكبري, وثورة مباركة توحي بأن هذه الثورة هي المناسبة الكبري لبناء تعاقد سياسي ومجتمعي جديد, تعاقد يولد من رحم كل الأسباب الدافعة والعوامل الداعية لقيامها, وأحوال انقلبت عليها من استبداد مقيم وفساد عميم وظلم أثيم. التعاقد السياسي والمجتمعي الجديد أمر تفرضه الثورة بكل معانيها, وكل مبانيها, وكل مغازيها, لايعقل بعد ثورة سيسطر التاريخ قيمها وقيمتها, أن تسير علي منوال قواعد عتيقة ونظم قديمة شكلت مسيرة ظلم وظلام. وهذا التعاقد أيضا كاشف عن حركة التيار الأساسي في الأمة الذي ينهض بها وينهض لها, فتلتئم أصول جماعة وطنية ونسيج مجتمعي يحرك الطاقات ويجمع الفاعليات ويستثمر الإمكانات ويشكل منظومة القيم والمقاصد والغايات. وهو كذلك بيان واضح عن تعدد في المجتمع يحتويه, وتنوع في الطاقات يثريه, ونهوض وارتقاء يمكنه ويمضيه, إن هذا يعني ضمن ما يعني ان يجد كل واحد نفسه بين سطور الدستور وصياغاته, إنه وثيقة تصدر من الكل وللكل قاصدة الجميع والمجموع. أتوقف هنا عند أمرين. الأول, يتعلق بضروة صياغة البنيان والكيان الدستوري علي قاعدة التعاقدية منذ تشكيل جمعية التأسيسية, وحتي خروج وثيقة الدستور المستهدفة بعملية استثنائية, وكأن الأمر يدور بين تعاقدية صغري( الجمعية التأسيسية) وتعاقدية كبري( الشعب وطاقاته التنوعية), التعاقدية الصغري والكبري يجب أن تستندا إلي أصول المراضاة والاختيار والتمثيلية, قاصدة إلي قواعد التأسيس من غير التفاف أو لبس أو تلبيس. وليس لأحد أن يحتج لدينا أنه لو أن هناك بعض العوار في الشكل والتشكيل لجمعية تأسيسية تضع وتصنع الدستور أمر من الممكن أن نمرره, ونسينا أن الشكل والتشكيل هما اللذان يحددان الشاكلة الدستورية, قل كل يعمل علي شاكلته. أيها الناس إن الحديث عن تشكيل الجمعية التأسيسية المتوازن في إطار تشكيل التمثيل ليس تزيدا أو تعنتا, بل هو من صميم ابتداء التعاقدية في العملية الدستورية ولا يصح أن يبني الدستور علي عوار حتي ولو كان كامنا أو مستورا. من هنا كان اتفاق الجبهة الوطنية مع الرئيس في اتفاق فيرمونت في يونيو الفائت قبيل إعلان نتيجة انتخابات الرئاسة في جولتها الثانية, بالسعي الفعال في إرساء تشكيل متوازن, طورت فيه الجبهة رؤية أقرب ما تكون إلي العدالة والتمثيل, ولو في حده الأدني المقبول والمعقول. وليس من المقبول أو المعقول أن تصاغ جمعية تأسيسية في طبعتها الثانية علي بعض منوال الأولي, حتي ولو أن العوار يسير وليس بالكثير, إن التوافق الابتدائي التمثيلي في بنيان التشكيل وكيان التمثيل قاعدة لا يجوز التغاضي عنها أو المرور عليها إعراضا وتغافلا, بل يجب أن يكون محل اجتهاد وجهد تعاقدي وتراض مجتمعي أكدت فيه الجبهة عدة مسارات مهمة( الإحلال الجزئي من الاحتياطي) إعمالا لقاعدة التمثيل( الجبر الاحتياطي), الهيئة الاستشارية الفنية الفاعلة من علماء القانون والسياسة المعتبرين( الجبر الاستشاري). الحوار المجتمعي المتنوع والممتد( الجبر المجتمعي والحواري), والتوافق والتراضي الدستوري في البناء والصياغة باعتبارها الأصل والتصويت المحصن بالثلثين باعتباره الحد الأدني في صياغة التعاقد المجتمعي والسياسي والدستوري الجديد( الجبر التوافقي والتصويتي), نقصد بالجبر جبر الكسور والقصور, إن دستورا يكون واقعا بعد ثورة علي تصويت أغلبوي لهو أمر يتغافل عن بناء عناصر الأمان في الكيان الدستوري, يا أسيادنا إن صياغة الدساتير خاصة بعد ثورات لا تكون علي قاعدة الأغلبية والأقلية في مجال السياسة والبرلمان والانتخابات, لكن علي قاعدتي التمثيل والتوافق لأن هذا شأن مجتمعي, إن القاعدة التوافقية في الشأن المجتمعي وصياغة العقود هي الأعلي والأسمي والأرقي. أما عن المنتج فإن القواعد الكلية المحققة لمعاني المرجعية والشرعية والدافعية والجامعية والتعاقدية والفاعلية هي الأساس, ولو فصلنا في ذلك لاحتاج بنا المقام لتأليف كتاب أو كتابة بحوث. الأمر الثاني وهو مشتق من الأول وهو يحرك قاعدة أخلاقية وقيمية أساسية أن المراضاة والتراضي والاختيار والتمثيل كمداخل للاتفاق والتوافق الجمعي لا يحتمل المزايدة أو المقايضة, ولكن التوافق حركة تشاور مجتمعي تؤصل معني الشراكة والاستهام في سفينة الوطن. هذا بيت القصيد إن اختلاف أهل سفينة الوطن يحتاج منهم أن ينظموا تعددهم ويديروا خلافاتهم, إن الإرادة في التفاعل والإدارة في التعامل مع الاختلاف عملية سياسية وداخلية ومن ثم صار من الواجب علي أن أتعرض بالنقد لمقالة كتبها أحد أصدقائي تتضمن الاستدعاء وقد يكون مقدمة لاستعداء خارجي, أفهم ان العلاقة بين الداخل والخارج ليست انفصالا, ولكن استدعاء الخارج في مسار تعاقدي لوثيقة دستورية مجتمعية وسياسية أمر لا يدخل في دائرة المقبولية أو المعقولية, تحت دعوي أن الدستور ليس مسألة داخلية فقط أو أنه واجبنا التحرك الدولي ومن الآن مع منظمات دولية وبرلمانات ومجتمع مدني وإعلام, أملا في تكثيف الاهتمام والضغط الدولي لمساعدتنا في الدفاع عن دستور عصري ويتبع هذا توظيف القلق الدولي, الحكومي وغير الحكومي, للضغط علي الإسلام السياسي للكف عن تلاعبه بالحقوق والحريات وبهوية الدولة. واجبنا أن نتواصل مع المجلس الأممي لحقوق الإنسان( جنيف), مع البرلمان الأوروبي, مع برلمان عموم إفريقيا, مع برلمانات الولاياتالمتحدة وأوروبا,.. وأن ندعوها جميعا لدعم موقفنا من الدستور وللضغط علي قوي الإسلام السياسي الحاكمة في مصر اليوم. هذه الدوائر والجهات جميعا تريد لمصر أن تلتزم بالعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان, وأن تضمن بها المساواة الكاملة بين المرأة والرجل, وهنا تحديدا مدخلها للضغط علي جماعة الإخوان وحزبها ورئيسها. ذات الدوائر أيضا, خاصة البرلمان الأوروبي والكونجرس الأمريكي, تستطيع الضغط علي حكومات دولها لإيصال رسالة واضحة للرئيس مرسي ولأحزاب الإسلام السياسي مؤداها أن الدعم الاقتصادي والمالي مرتبط بإجراءات بناء الديمقراطية وفي المقدمة منها إنجاز دستور عصري يضمن الحقوق والحريات ومدنية الدولة.هل هذا الكلام مقبول أومعقول. إن حديث المساجلات والتنازعات والمساومات مرفوض في وثيقة دستور الثورة, إن الدستور لا يحتمل ميكيافلية أحد, ولا هيمنة فصيل علي وثيقة وطن يجب أن تخاطب كل أحد, وأخطر من هذا كله أن يفترض أحد أن وثيقة تحمل عقدا مجتمعيا في داخله وأبنائه وقواه وأطيافه لا يمكن أن يتدخل فيها من خارج أي أحد. إن هذا الشعب بعد ثورته لن يطلب معونة خارجية في تقرير مساراته وخياراته, حتي ولوكان ذلك ضغطا, إن هذا الشعب ملك أهليته الكبري بثورته لن يقبل استدعاء خارجيا لأحد أو وصاية من أحد, ولايمكنه أن يقبل تدويل ماهو داخلي, فهل تعلمنا دروس ثورة يناير. إن اختبار الدستور هو اختبار لنا جميعا.. دستور يا أسيادنا. المزيد من مقالات د.سيف الدين عبد الفتاح