هذا الجدل المحتدم الدائر حالياً فى أروقة البرلمان ويلقى بظلاله على المشهد السياسى حول معايير تشكيل الجمعية التأسيسية التى ستضع الدستور الجديد ومن ثم نسبة تمثيل النواب فى الجمعية ونسبة كل حزب من الأحزاب الممثلة فى مجلس الشعب والشورى.. هذا الجدل يتعين أن يتوقف وينتهى إلى توافق عام دون اللجوء إلى التصويت حسبما يلوّح حزب الأغلبية (الحرية والعدالة)، باعتبار أن التوافق هو الصيغة الأفضل لتجنب الاحتراب السياسى والانشقاق داخل أول برلمان بعد الثورة.إن التوافق على معايير تشكيل جمعية الدستور ونسبة تمثيل نواب البرلمان دون التمسك بالتمثيل النسبى للأحزاب الممثلة فى البرلمان.. إنما يعنى فى نهاية المطاف أن يتم الاختيار وفقاً لمعايير الكفاءة القانونية والدستورية.. هذا إن ظل النواب وخاصة نواب أحزاب التيار الدينى مصممين على المشاركة فى عضوية الجمعية التأسيسية. وفى نفس الوقت فإنه لايزال مأمولاً من النواب وفى مقدمتهم نواب أحزاب التيار الدينى النأى بأنفسهم عن عضوية الجمعية وفقاً للقاعدة الديمقراطية الدستورية المستقرة فى الديمقراطيات العريقة وهى أن البرلمان لا يصنع الدستور وإنما الدستور هو الذى يصنع البرلمان، باعتبار أن الأغلبية البرلمانية الحالية قد تصير أقلية فى برلمان قادم. كما أن دواعى ومقتضيات المواءمة السياسية فى هذه المرحلة التحولية التى تمر بها مصر بعد الثورة تتطلب كما سبق وأشرت فى الأسبوع الماضى أن يتم تشكيل جمعية الدستور من شخصيات عامة من خارج البرلمان.. من النخب السياسية والاقتصادية والفكرية ورجال القانون وفقهاء الدستور وممثلين للنقابات المهنية والعمالية وكافة أطياف وفئات المجتمع على اختلاف وتباين التوجهات السياسية. وأحسب أنه من الضرورى أيضاً مراعاة تمثيل المرأة والشباب.. تمثيلاً نسبياً معقولاً فى عضوية الجمعية التأسيسية، بل لعلى لا أبالغ إذ قلت بضرورة مشاركة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر وقداسة البابا شنودة أو من يمثله ويمثل الكنيسة الأرثوذكسية وكذلك مشاركة ممثلى بقية الطوائف المسيحية المصرية، مع ملاحظة أنه سبق لشيخ الأزهر إصدار وثيقة المبادئ الدستورية التى توافقت عليها كافة القوى والتيارات السياسية والدينية. *** وفى كل الأحوال فإنه لا خلاف على أن يصدر الدستور الجديد معبراً تعبيراً حقيقياً عن إرادة جموع المصريين كافة.. عاكساً فى نفس الوقت أهداف ومطالب ومكتسبات ثورة 25 يناير التى أسقطت النظام السابق وأسقطت معه الدستور بما تضمنه من عوار عدد من مواده وعلى رأسها تلك التى جرى تعديلها سواء فى عام (1981) أو فى عام (2005). غير أنه يتعيّن التنبّه إلى أن الدستور الجديد لن يكون بالضرورة منبت الصلة بالدستور السابق المعطّل (دستور 1971) ولا بالدساتير الأخرى السابقة، إذ أن مصر لديها تراث دستورى عريق فى مجمله منذ دستور 1923 باستثناء ما شاب بعضها من عوار بعض المواد والنصوص والتى تتعلّق تحديداً بمنصب رئيس الجمهورية وصلاحياته وسلطاته ومدد الرئاسة المطلقة والتى انطوت على تركيز السلطة المطلقة للحاكم وعلى النحو الذى يقنّن استبداده على حساب سلطات وصلاحيات البرلمان فى المحاسبة والرقابة على ممارسات السلطة التنفيذية ممثلة فى الرئيس وحكومته.. أما غالبية مواد الدستور السابق فهى فى مجملها لا خلاف عليها، إذ تؤكد على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون وصيانة حقوق الإنسان واحترامها واحترام العقائد الدينية وتكافؤ الفرص وغير ذلك من النصوص الدستورية المحترمة، وإن كانت هذه المبادئ والنصوص قد تعرّضت فى الماضى لانتهاك صارخ أفرغ الدستور من مضمونه وصار «ديكوراً» مثلما كانت التعددية الحزبية «ديكوراً» سياسياً وحبراً على ورق! ولذا فإنه أياً كان تشكيل الجمعية التأسيسية، وأياً كانت نسبة تمثيل نواب البرلمان أو تمثيل نواب أحزاب التيار الدينى ذات الأغلبية، فأحسب أنه لا خلاف سياسياً ووطنياً مع اختلاف وتباين الاتجاهات السياسية والتوجهات الوطنية على أن تتضمن مواد الدستور الجديد حزمة من النصوص والضوابط الدستورية والديمقراطية خاصة فيما يتعلّق برئيس الجمهورية وسلطات وصلاحيات البرلمان فى أعمال الرقابة والتشريع. *** إن فى مقدمة المواد الدستورية التى يلزم صياغتها صياغة ديمقراطية محترمة فى الدستور الجديد هى تلك المادة الخاصة بضوابط وشروط الترشح لمنصب الرئيس وهى المادة التى كانت برقم (76) فى الدستور السابق والتى تم تعديلها عام (2005) وتفصيلها تفصيلاً لصالح سيناريو التوريث وحيث جاءت صياغتها عواراً دستورياً وغير مسبوقة فى تاريخ الدساتير. ولإزالة هذا العوار الدستورى وتجنباً لتكرار سيناريو التوريث مستقبلاً فإنه من الضرورى أن ينص الدستور الجديد على أنه يحظر على أى من أسرة رئيس الجمهورية وأصهاره وأقاربه حتى الدرجة الرابعة الترشح للرئاسة إلا بعد دورتين رئاسيتين تاليتين لانتهاء ولاية الرئيس. ثم إنه.. تأكيداً للتوجه الديمقراطى الحقيقى بعد الثورة.. وضماناً للحيلولة دون تأبيد الحكم.. وتحقيقاً لتداول السلطة، فمن المؤكد أن واضعى الدستور الجديد سوف يلتزمون - وحسبما أجمع كافة المصريين - بالنص على تحديد مدة رئاسة الجمهورية بمدتين اثنتين فقط على أن تكون مدة الرئاسة خمس سنوات (على الأكثر).. وهنا يجدر التنويه إلى أن إحكام هذا النص الدستورى يتطلب النص أيضاً على عدم جواز تعديله لاحقاً لأى سبب من الأسباب مع جواز استمرار الرئيس فى منصبه مؤقتاً بعد نهاية مدتى الرئاسة فى حالتين اثنتين فقط على سبيل الحصر.. نشوب حرب أو قوع كارثة طبيعية وبما يحول دون إجراء انتخابات رئاسية جديدة على أن يتم إجراؤها فور زوال أسباب تأجيلها. وإذا كان الاتجاه نحو تحديد سن المرشح للرئاسة ب (40) سنة فإنه من الضرورى من جهة أخرى النص على ألا تزيد السن على (70) عاماً اعتباراً من أول انتخابات رئاسية تالية لإقرار الدستور الجديد. ولا شك أن تحديد حد أقصى لسن المرشح للرئاسة يعنى ضمان اللياقة الصحية.. البدنية والذهنية اللازمة لممارسة مهام هذا المنصب الرفيع بأعبائه الثقيلة ومسئولياته الجسام، خاصة وأن تجربة الرئيس السابق بعد تجاوزه للثمانين من عمره أكدت افتقاده القدرة على الإدارة والحكم فأسلم قيادة وإدارة البلاد لزوجته ونجله الذى كان يجرى إعداده لوراثة منصب الرئيس فى انتهاك صارخ لأسس النظام الجمهورى. إن ثمة مادة دستورية احترازية وبالغة الضرورة يلزم أن يتضمنها الدستور الجديد.. تحظر على الرئيس إسناد أية مناصب أو وظائف رسمية أو مهام سياسية أو حزبية لكل من زوجته وأبنائه وإصهاره وأقاربه حتى الدرجة الرابعة، كما يحظر على هؤلاء وعليه شخصياً ممارسة أى نشاط سياسى أو تجارى أو عقارى من أى نوع طوال فترة رئاسته.. كما أنه من الضرورى أن يتضمن الدستور الجديد أيضاً نصاً يحظر على زوجة الرئيس ممارسة أى عمل عام أو اجتماعى من خلال أية جمعية أو منظمة من منظمات المجتمع المدنى أياً كان نشاطها أو أهدافها، على أن يقتصر دورها على الحضور «البروتوكولى» مع الرئيس فى المناسبات الوطنية العامة واستقبال زوجات الرؤساء وفقاً لمقتضيات «البروتوكول». *** ومن الضوابط الديمقراطية فى الدستور الجديد أن يختار المرشح لمنصب رئيس الجمهورية نائباً له.. مرشحاً معه فى بطاقة انتخابية واحدة، وهو الأمر الذى يوفر ضمان وجود بديل ديمقراطى للرئيس فى حالة خلو المنصب وغياب الرئيس أو فى حالة عجزه عن ممارسة مهامه، حيث يكمل النائب المنتخب مدة الرئيس الغائب حتى نهايتها وعلى النحو الذى يضمن تجنب أى فراغ دستورى فى البلاد، خاصة وأن النائب فى هذه الحالة منتخب من الشعب وليس معيناً. وتحقيقاً للشفافية والنزاهة المالية وطهارة الحكم فإنه يتعيّن أن يتضمن الدستور تحديداً واضحاً لمرتب رئيس الجمهورية ومخصصاته وكذلك مخصصات الرئاسة مع النص على إمكانية تعديلها وزيادتها بموافقة البرلمان، وفى نفس الوقت ضرورة إلزام الرئيس المنتخب وقبل تسلم مهام منصبه بالإعلان من ثروته هو وأسرته مع إلزامه أيضاً بتقديم إقرار بذمته المالية فى نهاية فترته الرئاسية. *** وتبقى أخيراً نسبة ال (50%) عمال وفلاحين التى كان الدستور السابق يشترط تحقيقها فى البرلمان والأحزاب والتى أبقى عليها الإعلان الدستورى، وهى بدعة لا مثيل لها فى النظم السياسية فى دول العالم.. الديمقراطية وغير الديمقراطية.. انفردت بها مصر منذ دستور عام 1964. والمثير أن هذه البدعة الدستورية جرى التحايل عليها طوال خمسة عقود، إذ أن الذين احتلوا مقاعد العمال والفلاحين لم يكونوا ممثلين حقيقيين لهاتين الفئتين باستثناء مالا يزيد على أصابع اليد الواحدة. على واضعى الدستور الجديد إلغاء هذه النسبة وإنهاء تلك البدعة التى لم تكن فى واقع الأمر سوى خدعة. N