كتب:مكاوي سعيد: كنا تلاميذ في مدراس حكومية, أيام كان الالتحاق بمدرسة خاصة ذات مصروفات, علامة علي الفشل والبلادة, وكان الملتحقون بهذه المدراس يتوارون كأنهم مرتكبوا آثام عظيمة. يتسللون عند صعودهم الباصات التي ستقلهم إلي مدارسهم, ويندفعون تجاه بوابات منازلهم عند المرواح, لا تكاد تلمحهم بأزيائهم الغالية ذات اللون الأخضر أو الأزرق أو الأحمر طبقا لتقاليد مدارسهم, بينما نحن نتهادي في الشوارع قبيل الدخول وبعد الخروج من المدرسة, بمرايلنا الصفراء الكالحة وحقائبنا اليدوية المحاكة من قماش سميك كالدمور أو شراع المراكب, نتقاذف الدوم بأقدامنا أو كرات البنج بنج أو كرات التنس, ولا نعتمد في مذاكرتنا إلا علي كتاب المدرسة, ونقول بفخر: لقد حللت المسألة الرياضية طبقا لكتاب الوزارة, الكتب الخارجية كانت للبلداء والذين يدرسون بالمدارس الخاصة, وطبعا لم نكن نعرف شيئا اسمه مدرس خصوصي, ولا كنا نأخذ دورسا خصوصية في البيت فلا المدرسين يقبلون أن يفعلوا ذلك خوفا من خرق القانون وتلقي عقابه, أو إرضاء لضمائرهم- الله أعلم- ولا الأهالي سيسمحون لنا بذلك لعدم قدرتهم علي تحمل هذه التكلفة الإضافية, ولأن هذا ببساطة معناه أننا كنا نلعب وغير منتبهين إلي المدرس أثناء الحصة, حتي عندما زادت الشكاوي من ظاهرة تكدس التلاميذ في الفصول التي تجعل بعض التلاميذ غير منتبهين لشرح المدرسين, قررت الوزارة السماح بعمل فصول تقوية بالمدارس تحت إشراف ناظر أو مدير المدرسة, كنا نعيب أيضا علي من يلتحق بهذه الفصول ونعده من البلداء. كان للمدرس هيبة ووقارا, نتنحي عن الطريق عندما نقابله وجها لوجه ونفر إلي سكة أخري إذا ما لمحنا ظهره, كلامه عند أولياء الأمور مصدق حتي لو قال عنا ما يخالف الحقيقة, مجرد استدعاء المدرسة لولي الأمر, معناه أن هذا التلميذ سيمر بيوم وليلة أسود من قرن الخروب حتي يذهب ولي الأمر إلي المدرسة وتنجلي الأمور, خبر القبض علي مدرس يعطي درسا خصوصيا كان وقعه علي الناس أشد من وقع القبض علي قاتل أو تاجر مخدرات.. أذكر أننا خرجنا من المدرسة متأخرين بعض الوقت لأننا لعبنا الكرة في حوش المدرسة, بمجرد خروجنا من المدرسة وجدنا مديرة المدرسة تسبقنا في الطريق ببضع خطوات, اضطررنا للتقهقر حتي لا ترانا وتلومنا علي مرايلنا المتسخة أو أحذيتنا المتربة, المفكوكة الأربطة, كانت تمشي ببطء ونحن غير قادرين علي السيطرة علي حركتنا الدؤوب, والعبور إلي الضفة الأخري من الشارع, مغامرة كبري في مثل هذا الوقت الذي تتدفق فيه السيارات بكثافة, ومن غير المعقول الالتفاف إلي الخلف والسير مسافة طويلة جدا حتي نجد شارعا جانبيا ندخل فيه, ولحسن حظنا وجدناها تتوقف قليلا أمام محل فاكهة كان في منتصف المسافة, كانت الأقفاص متراصة علي جانبي المحل وهي تنظر بإمعان إلي الفاكهة, لمحها الفاكهاني من داخل محله فخرج إليها, استغللنا هذه الفرصة وتسللنا من خلف ظهرها بينما كانت تشير بإصبعها إلي قفص التفاح, اختفينا في الشوارع الجانبية لكننا لم نكف عن السخرية والتندر من شرائها للتفاح, فرغم أن مدرستنا في حي يعتبر من الأحياء الأرستقراطية نوعا ما, ويسكن به كثير من الأجانب وأبناء الطبقة الراقية, وطبيعي جدا أن يعرض هذا الفاكهاني التفاح المستورد اللبناني أو الأمريكاني ضمن معروضاته, وأن يقبل بعض الناس علي شرائه رغم ثمنه الفاحش( كان سعر كيلو التفاح المكتوب علي ورقة كرتون صغيرة فوقه يعادل ثمن عشرة كيلو برتقال او اليوسفي او حتي الفراولة) لكننا كنا نستبعد أن أحدا قريبا منا- ولوحتي علي مسافة كمديرة المدرسة- يدفع هذا المبلغ الكبير من أجل شراء كيلو من التفاح, هذه التندرات الخفيفة التي تداولها خمسة تلاميذ في خلال ثلاثة أيام فقط, انتشرت بين تلاميذ ومدرسين المدرسة كلها ووصلت إلي المديرة.. وتخيلوا ماذا فعلت؟ في صباح اليوم التالي وعقب تحية العلم وبينما نحن نصطف للصعود إلي فصولنا, أمسكت بالميكرفون وطلبت منا الإنصات, ثم ذكرت الواقعة بالتفصيل:( أن بعض التلاميذ شاهدوها أثناء شرائها التفاح من محل قريب من المدرسة, وأنها فعلا فعلت ذلك, ليس رغبة منها في تقليد الأثرياء ولكن لأن ابنها إبراهيم- وهو تلميذ أيضا بالمدرسة- كان مريضا منذ عشرة أيام, والطبيب أمره أن يأكل تفاحة كل يوم حتي يبرأ من مرضه), ثم رفعت في وجوهنا دفتر الحضور والغياب وفتحت صفحاته بصعوبة لكي تثبت لنا أن ابنها إبراهيم كان في إجازة مرضية, طبعا لم نر شيئا عبر تلك المسافة الكبيرة, لكننا صفقنا بحرارة خلف مدرس الألعاب الرياضية تحية لها. هذا كان سلوك التلاميذ والمدرسين زمان, لذا تدهشني جدا جرأة مدرسي هذه الأيام علي الجهر بمخالفة القانون وهم يعلنون علي الحوائط استعدادهم لإعطاء دروسا خصوصية ويذكرون أرقام هواتفهم, ومن تبجح أولياء الأمور الذين يساعدون أولادهم علي الغش حتي بلغت بأحدهم الجرأة علي الوقوف أمام لجنة الامتحان وبيده ميكرفون يتلو فيه الإجابات النموذجية للممتحنين, وبالصحف التي تذكر بالتفاصيل وقائع تحرش بعض المدرسين بالطالبات والطلاب, وحوادث تدخين المخدرات في الفصول, وبالأسلحة البيضاء التي أصبحت ضمن سلاح التلميذ! ثم صرت لا أعجب من أن يلقي طالب مصرعه بعد أن لسعته عقرب داخل المدرسة, أو يلقي القبض علي تشكيل عصابي أو شبكة دعارة مقرها أحد المدارس, فقد تركنا أنبغ عقولنا وعلمائنا وأميز مدرسينا يرحلون إلي الخليج, واستعضنا عنهم بمدرسين غير أكفاء لم يتعرفوا علي مناهج التربية ولم يكتسبوا مهارات التعليم فخرج إلينا النتاج العجيب, لو حقا تهتمون بمستقبل هذا البلد اهتموا بتأهيل المعلم قبل التعليم وربوا أولياء الأمور قبل التلاميذ. [email protected]