كانت إغفاءتي قصيرة, لكن حلمي كان طويلا. أظن أنني رأيت فيه كل شئ تقريبا, لكن نوافذ الحلم انغلقت خلفي وأنا أصحو. لا أستطيع أن أتذكر شيئا. أغمضت عيني مرارا, وحاولت أن أشرئب بخيالي علي الحافة الفاصلة بين الحلم واليقظة لأستعيد اللحظة الهاربة, لكن المسافة كانت تتزايد. يغمرني إحساس أليم بالفقدان. نفثت دخان سيجارتي في بخار القهوة; متوهما أنني أستطيع أن أستنهض حلما آخر يعوضني, لكن دخاني لم يلهمني بشئ, ظللت مغلقا. خلف زجاج النافذة صباح شتائي لا أستطيع أن أخمن تقلباته; سحب تتجمع قوق قبة الكنيسة المواجهة لمسكني, ودفقات ريح تهز أشجار الرصيف. احتطت لمفاجآت الطقس بجاكت خفيف به غطاء للرأس, ثم علقت حقيبة الكاميرا بكتفي, ونزلت. لم أنتظر الأسانسير. هبطت الأدوار الثلاثة ببطء, كنت حريصا علي تفادي أي تحركات أو انتقالات سريعة يمكن أن تخرجني من إيقاعي. لا يزال أمامي وقت. في خطواتي إيقاع حلمي المحجوب, أتنفس ذلك الأسي الغامض الذي تبقي, بقايا العطر الذي بددته اليقظة. أفكر: هل يمكن أن تدرك في غفلتك ما لا تستطيع أن تتنبه له في اليقظة. يملؤني شجن محير. لا أنوي أن أحكي حكاية محزنة, فأنا لا أقوي علي ذلك. ولا أظن أنني تعمدت ان أسبب لها حزنا, وإن كانت هي تعمدت ذلك. لم تقصدني وحدي, وانما كانت تنتقم من الجميع, ولا أستطيع أن أخمن ترتيبي في القائمة, لكن حين فعلت ما فعلت حملناها جميعا علي أكتافنا; نحن القتلة. اختارت أن تفعل ذلك في مواجهتي, تناولت جرعتها المميته في مكتبي, وأنا مشغول عنها بفحص صوري. كان صوتها يخفت وأنا غير منتبه لما يحدث, واخيرا نبهتني بصوت هادئ: هل سيسعدك موتي يا طومان؟ لم يخطر ببالي سوي أنها تهزل, جاوبتها بلقطة خاطفة بالكاميرا; كانت لقطة الموت. أنا أموت بجد ياطومان. مازلت احتفظ باللقطة. هل للموت صورة خاصة غير صور الحياة؟.. أظن أنها نفس الملامح. كانت تموت طوال الوقت.. طوال الوقت.. طوال الوقت. حملي ثقيل. لماذا اختارت مكتبي بالذات لتعلن فيه موتها؟! *** لكل صباح مذاق, ومذاق هذا الصباح مفعم بالتبغ ورائحة المطر. يقطر طعم الشتاء في حلقي كأنه شجني الخاص. أتنفس صباحي متمهلا وأنا أخطو صوب ميدان طلعت حرب, بينه وبين منزلي مسافة قصيرة. أعبره يوميا في طريقي إلي صحيفتي, وأتلكأ عادة أمام المكتبات وفرشات المطبوعات لأتعرف علي آخر العناوين. ذلك الصباح لم يشغلني الأمر, ثم أن الفرشات كانت مغطاة بالبلاستيك والقماش الثقيل تحسبا للمطر الوشيك. أحكمت غطاء الرأس, وواصلت طريقي إلي عملي. للسحاب بصمة خاصة تختلف من مكان الي آخر; أكاد أعرف المنطقة من أي لقطة للسماء. في القري زخارف ملونة علي خلفية زرقاء, وفي الأسكندرية كائنات خرافية تتمطي وتتعانق وتقهقه وتومض, أما هنا فوق شارع طلعت حرب فكوابيس سوداء معجونة بالدخان والغبار; شياطين تسن السكاكين وتطلق شرارات بارقة. طأطأت رأسي للكوابيس, وتشاغلت بمراقبة الجنود المكدسين في عربات الأمن المركزي, التي تصطف بطول الشارع, وتزداد كثافة كلما اقتربت من مبني نقابة الصحفين. صورت عدة لقطات لوجوه الجنود التي تتلاصق خلف أسلاك النوافذ, وهم يتفرجون ويترقبون الأمر بالنزول. لم أهتم بتصوير المتظاهرين الصامتين علي سلالم النقابة. عددهم لا يزيد عن خمسين شخصا, وخلفهم لافتة كبيرة: مافيش توريث.. كفاية تعريص, وبعضهم يرفعون لافتات صغيرة: كفاية.. كفاية.. كفاية.. تعجبت للحشد الأمني الكبير, وحرصت علي الانصراف بسرعة قبل أن يتزايد حشد المتظاهرين ويبدأ الصدام. عملي لا يلزمني بتصوير تلك الأحداث, تخصصي المناسبات الفنية, لكن ما أصوره لنفسي أكثر مما أصوره لعملي. أحب لقطات الغفلة; أن أفاجئ الوجوه في لحظات الاستغراق الحميم, خارج حالات التأهب ورسم الابتسامات. في أرشيفي وجوه كثيرة; عيون منكسرة; عيون متحفزة; دموع مبتسمة; وابتسامات دامعة. *** كانت نهلة تسعد بلقطاتي المفاجئة, تتأهب وتستدرجني بمكر, وحين أتغافل عن افتعالها تلومني بدلال: فاتتك لقطة حلوة يا باشا; خسارة. في عينيها صفاء, يصنعه ذلك البني الصريح الذي لا يعلق به أي لون آخر, لا شبهة خضرة أو زرقة. شعرها كستنائي يطوق وجهها بوقار دائما, فتبدو في حالات سكونها وكأنها إحدي سيدات القصور في لوحات عصر النهضة الأوربي. لكن حين تخرج من الإطار وتدب فيها الحياة فإن ثمة أشياء تجرح الإحساس بالنبالة. ابتسامة متوددة دائما, ورنة معدنية مستعارة في صوتها, واهتزازات سريعة في الذقن تصاحب كلامها. لمسات توحي بالافتعال والتردد; لا تليق بالنبيلات. منحتها منذ بداية تعارفنا لقب الليدي. كانت تسعد كثيرا حين أناديها به أمام الناس, وصبغ ذلك علاقتنا بخصوصية ما. لكنني كنت أغير طريقتي معها أحيانا, وأناديها بألفاظ سوقية; يا بنت; يا روح أمك. لا أتصرف علي هذا النحو إلا في حالات انفرادنا, وعندما تضايقني بتذاكيها ودورانها بالاسئلة حول أمور لا ترغب في الإفصاح عن اهتمامها بها. حينئذ يربكها انقلابي في الكلام, تعود بسرعة إلي إطار السيدة النبيلة; الليدي, وتنظر إلي بعتاب: لا تعاملني هكذا, ولا تنس أنني الليدي, دلعني دائما. أحب لقطاتي إليها وهي جالسة علي كرسي عال من الخوص, وقد ارتدت قبعة من الخوص أيضا ذات حافة كبيرة. رسمت الحافة ظلا هلاليا علي جبينها حتي أسفل حاجبيها, وتلاقي شعرها مع طرفي الظل ليطوقها حتي منتصف العنق, بينما سطعت بقية المشهد بلشمس أكتوبر. غربت عيناها في نظرة جانبية حالمة, وتلامست شفتاها بحنو كأنها تتأهب لتقبيل نفسها. كان لحمها ينبض علي خلفية من الخوص. التقطت الصورة في العين السخنة, لكن البحر لم يظهر في اللقطة. أمضينا هناك ليلة, وصممت علي تمضية بقية الإجازة في مكان آخر. ضايقتني ترتيبات الفندق; باعد موظف الاستقبال بيننا; أنا في الدور الأرضي, وهي في الثالث. مجرد انتباه الموظف لذلك يجعل الخلوة بيننا أمرا محرجا. لم أصارحها بالسبب; وإنما تعللت بالغربان التي ظلت تطاردني بسيمفونية نعيقها حتي مطلع الفجر.