في ظل الجدل الذي أثير حول انقطاع الكهرباء في ربوع الوطن, نجد ان التبرير الرسمي دائما موجود وان الحالة تمام وأننا في غضون أسابيع سنتغلب علي هذه الحال, وان دخول المحطات الجديدة تباعا سوف يحل المشكلة. في رأيي هذا تسطيح غير طبيعي للمشكلة سواء علي المستوي الاستراتيجي أو الاقتصادي وكذلك الفني, فمن المعروف والمفهوم والواقع ان هناك مشكلة في التوازن بين العرض والطلب للكهرباء, ومعروف ان استراتيجية الاعتماد علي الوقود الاحفوري( البترول والغاز الطبيعي) في انتاج احتياجاتنا من الطاقة الكهربية وفي ظل دعم أسعار هذا الوقود وفي ظل تزايد الأسعار عالميا وباستمرار هي استراتيحية فاشلة دوما. وفقط للتدليل إذا كنا نستطيع بيع الكهرباء بسعر مكوناتها وبهامش ربح معقول لتسابق المستثمرين في عرض المنتج طالما أنه سيحقق ربحا مناسبا ولوجدنا أن العرض أكثر من الطلب, لكن ليست هذه هي الحقيقة انما الحقيقة أننا قد لانستطيع فعل ذلك لأسباب اجتماعية معروفة للجميع. بالتالي ولايجاد حلول لهذا التعقيد يجب أن نكون مبدعين في التناول والبحث للتعامل مع المشكلة. في اعتقادي أن أول الطريق لهذا الابداع يجب أن يكون الالتزام بمنهج الشفافية للمواطنين والتناقش المجتمعي الحر للاشكالية, ويجب أن يشارك الشعب في اعتماد حلول قد يكون بعضها صعبا وقد يكون بعضها به تحد للوصول بالمجتمع للأفضل. هذه الشفافية يجب أن تحتوي حقائق غائبة ويتناولها غير المتخصصين بمزيد من التغييب للناس مستغلين غياب الوضوح في تصريحات المسئولين وسكوت المتخصصين خوفا من ردود الافعال السلبية, او قد يكون للاحباط من عدم اعتبار المنهجية والتخصص في التناول. عموما يجب أن يعلم الجمهور ان متوسط استخدام الكهرباء للفرد في مصر لايتعدي1700 كيلو وات ساعة في السنة ولاداعي للتدليل علي ان هذا الرقم متدن للغاية مقارنة بالدول الاخري, فمصر تحتل المرتبة ال80 في استهلاك الفرد للطاقة الكهربية وتسبقنا دول مثل الأردن ولبنان وايران وتركيا وليبيا وقطر والكويت والسعودية وغيرها وبفروق كبيرة. وهذا الرقم يقابله6600 في اسرائيل علي سبيل المثال. وبالطبع الرقم لا يعبر عن الرفاهية فقط, لكن يوضح مدي استخدام الطاقة الكهربية في الصناعة والزراعة والنقل والانتاج بصفة عامة. وهنا يجب ان نقف عند رقم مذهل آخر اننا نستخدم المازوت والغاز الطبيعي لتوفير احتياجاتنا من الطاقة بنسبة تقارب90%, وهذا يجعل اقتصاديات الطاقة رهينة لسعر البترول والغاز دائما ويجعلنا تقريبا ننهار في حال انخفاض مخزوننا من هذا الوقود وفي حالة ضعف أو انعدام الرأسمال المطلوب لاستيراده. وللتعامل مع هذا التهديد الاستراتيجي يجب أن نكون علي مستوي الحدث ادراكيا, فالمشكلة لا تهدد اجهزة التكييف, كما صور البعض ولا حتي انقطاع الكهرباء عن البيوت بعض الوقت, لكنها تهدد بقاء بناء الدولة الحديثة التي نتمناها ونتوق اليها, المشكلة تهدد قطاعات الصناعة والزراعة والنقل والخدمات المهمة للأخذ بقاطرة التطور والنمو وحل مشكلات عويصة كالبطالة والصحة والتعليم وارتفاع الدين الداخلي والخارجي, ولا طريق امامنا الا بتنويع مصادر السلاح. نعم تطوير مصادر السلاح للتعامل الصحيح مع حجم الخطر الداهم, وللتقريب يجب ان تكون معركتنا علي جميع الجبهات وبعزيمة واصرار, يجب ان نحول قطاعات بكاملها لاستخدام طاقة الشمس والرياح( حتي في ظل مردودها الضعيف بالنسبة لكثافة الطاقة وتكلفة الانتاج) مثل استخدامها للتدفئة وانارة الشوارع والاستخدامات الزراعية ويجب ايضا التفكير بجدية في دعم البحث والتطوير لتصنيع الخلايا الشمسية وتربينات الهواء بمصر, اما بالنسبة للاحمال الصناعية والنقل وذات الاستخدام الكثيف للطاقة فلايمكن التعامل معها الا عن طريق ادخال واستخدام الطاقة النووية لتوفير احتياجاتها بسعر مناسب للتنافس الصناعي العالمي. تأتي النقطة التالية والخاصة بترشيد الاستخدام التي يتناولها البعض علي أنها الاقتصاد في الاستخدام والحقيقة, فإن ترشيد الاستخدام ليس فقط بدعوة الناس للتوفير وتغيير الملبس ولكنها في الأساس دعوة لتقليل الفاقد في نقل الكهرباء ورفع كفاءة الشبكات والمحولات المتآكلة والصيانة الجادة والاستخدام الصحيح لكل وات نحرق به مواردنا لإنتاجة. ويجب أن يعرف الجميع اعلاميا حقيقة هذا الفاقد وأسبابه وطرق تقليله بأسلوب المكاشفة وليس بمقولة أن كل شئ تمام, أو بالتركيز علي فرعيات دون الاهتمام بالأساسيات. تبقي النقطة الأكثر حساسية وهي اشكالية دعم الطاقة وتلك في الحقيقة اشكالية معقدة, فمثلا تتعالي الأصوات بتحرير سعر الطاقة في قطاع الصناعة بحجة أن أسعار المنتجات تقارب الأسعار العالمية. وبالطبع قد يكون هذا الرأي به بعض الوجاهة, ولكن في الوقت نفسه يجب أن نعلم أن تشجيع الصناعة للنمو والاستثمار ولايجاد فرص عمل جديدة لن يتأتي في ظل سياسة تسعيرية تعتمد علي سعر البترول المتعالي باستمرار. فكيف لنا أن ننافس صناعات في الصين وكوريا وروسيا وأوروبا وغيرها من الدول في حال أن تلك الصناعات في هذه الدول تعتمد علي انتاج الطاقة النووية الأرخص سعرا والاكثف انتاجا والأكثر استقرارا بالنسبة لسعر الوقود؟ وكيف نرفع الدعم ولو نسبيا عن مشتقات الوقود في ظل إقرارنا بأن90% من نشاطاتنا الاقتصادية تعتمد علي البترول والغاز. من ثم يجب أن نعي أن أي تحريك في هذه الأسعار سيقابله تحريك مضاعف في الأسعار بعدد استخدامات الطاقة في الانتاج والنقل والتخزين والتوزيع للسلع المختلفة. والمشكلة ليست فقط في التسعير والدعم, لكن أساسا في الاستخدام وسوء التنويع بين مصادر الطاقة المختلفة التي تنحصر فقط في سعر البترول والغاز. أخيرا لايبقي سوي نداء لمن يهمه الأمر فالطاقة هي عصب الحياة للتقدم ولن تستقيم أي مطالبات بالنهضة بدون تنويع مصادر سلاح الطاقة; فورا باستخدام الطاقة النووية أساسا لحل اشكالية الكثافة في الانتاج واستقرار الأسعار وكذلك تطوير استخدام الطاقات المتجددة بقدر ما تسمح به التكنولوجيا في المرحلة الحالية.