أسعد طه : رصاصة القناص قتلت المرأة.. ممتاز! عندما تشتد المعارك كان المصورون يتوزعون في شوارع سراييفو, يضعون كاميراتهم ويديرونها بصفة مستمرة يخرجون شريطا ويضعون آخر, علي أمل أن تصطاد صورة مميزة, قذيفة هنا أو قناص هناك, شريط الصورة يفيد أن إمرأة كانت تسير وهي تدفع عربة رضيعها وبصحبتها طفلها الآخر, أستهدفتها رصاصة قناص صربي فسقطت قتيلة في الحال فيما الطفلان ظل يصرخان, شريط الصوت المصاحب لشريط الصورة سجل صوت صاحبنا وهو ينطق هذه العبارة الإستفزازية, الرجل لم يكن بالتأكيد فرحا وإنما سعيد بصيده, لقد وثق الجريمة في حياتهم المهنية كم مشهد موت يراه هؤلاء التعساء من مصورين وصحفيين ومراسلين وصانعي أفلام وثائقية, كم من ألم يصيبهم وهم يسجلون لقارئ الصحف أو للجالسين أمام شاشات التلفاز تفاصيل ما يرونه حيا أمامهم وإن كان هو الموت, أدعي ذاكرة ضعيفة, لكن بعض المشاهد مازالت محفورة في مخيلتي وكأنها حدثت أمس. في رواندا كانت الحرب الأهلية قد وضعت أوزارها إلا قليلا, قبيلتان تتصارعان بوحشية, واحدة سمحت لنا بزيارة معسكر إعتقال للآلاف من أبناء القبيلة العدو, الحافلة التي ضمت صحفيين من كل أنحاء العالم قطعت ساعات تسير في غابات غاية من الجمال, وكأنها الجنة, ما أن عبرنا بوابة المعسكر إلا وتحول المشهد فجأة إلي أبيض وأسود, أرض جرداء, وهياكل آدمية تتحرك هنا وهناك, وقليل من العسكر المدجج بالسلاح, لا طعام ولا ماء, كل ما هو أخضر ينتزع حتي عشب الأرض, ويطهي في أشباه قدور علي نار ما يمكن جمعه وإشعاله, علي جانبي الممر المؤدي إلي داخل المعسكر جثث أطفال رضع ماتوا جراء سوء التغذية, وسيارة الصليب الأحمر تلملمهم, الناس هنا تموت بالمجان, والتعليمات لنا واضحة, من يمنحهم كسرة خبز يقتل مهما تكن جنسيته, علي الأرض إنسان ممدد, لا يتحرك منه إلا عيناه, يحتضر, نلتف نحن التعساء حوله بكاميراتنا, جنسياتنا مختلفة, عقائدنا مختلفة, ألواننا مختلفة, عجزنا واحد, ينظر إلينا ونحن نصوره في نزعه الأخير, يستجدينا يستعطفنا ونحن عاجزون, تدور عيناه بيننا, ولا نعرف ماذا يدور في خلده, قبل أن يغمضها للأبد, ننصرف لكن الألم لا ينصرف نساء يدخلن إلي قاعة ضخمة مهيبة, الرائحة النفاذة ستعلق بي لأيام عدة, دقات قلب الحضور تتسارع, الرهبة في كل الأنحاء, طاولات طويلة تبدو وكأنها لا نهاية لها, عليها رصت عشرات الهياكل العظمية, وحول كل واحدة منها بعض المتعلقات, خاتم زواج, فردة حذاء, قلم, بقايا نظارة طبية, تمر النساء البوسنويات عليها, تمسك كل واحدة بالعظام, تديرها يمنة ويسري, تبحث عن دليل يثبت أن هذا لولدها أو زوجها أو شقيقها, أي دليل علي أن هذا هو ما تبقي من حبيب العمر, أي كلمات عبقرية تلك التي بوسعها وصف الحال, تنفجر إحداهن في البكاء فتعرف الأخريات أن زميلتهن تعرفت علي جثة قريبها, ألم لا حد له, نسجل اللحظة ونخرج, لكن الألم يبقي. شريط الذكريات لا يهدأ, طفلة فلورا, المدينة الألبانية الجميلة, وهي تحكي لي عند الشاطئ أن أباها قد خاض مغامرة الهروب إلي الناحية الأخري حيث إيطاليا, وحيث وعدها باللعبة التي تشتهيها, ولا تعلم أن البحر الفاصل يشتهي الإنسان أحيانا فيضمه للآبد. أشد ما يؤلم دوما مشهد الأطفال, هم يدفعون ثمن غباء الكبار وتوحشهم وجشعهم, طفل توزلا البوسنية الراقد علي السرير مصابا في حالة ذهول بعد أن ذبح أفراد أسرته كاملة, الطفلة الصومالية في كوخ صغير كالقرطاس في أطراف مقديشيو وفي طقس حر لاهب وقد بدا وجهها مثل عجوز في السبعينيات عندما تسافر كثيرا تشعر أن هذه الأرض مهما امتدت هي بيتك, وأن ساكنيها مهما أختلفوا هم أهلك, يفرحك فرحهم ويحزنك حزنهم, ماذا قلت.. حزنهم, كيف بوسعك إذن أن تتحمل كل هذا الألم الدكتور يوسف إدريس هجر مهنة الطب إلي الأدب, بعد أن شعر أن قلبه لم يعد يتألم إزاء آلام الناس, تماما كما فعل محمد المنسي قنديل, فهل أغنتهما الكلمة عن الألم, وهل يمكن أن يتوقف الإنسان عن الألم يوما وفيما كنت أغطي أحداث حرب وجدت مراسلة لشبكة عالمية تسأل مترجمتها ماذا عن هذه الحالة, فترد المترجمة إغتصاب, فتقول المراسلة, أصرفيها أريد حالة أشد, وهذه, فترد ذبحوا زوجها, فتعاود المراسلة بوجه عبوس, لا لا أريد أشد, وهذه العجوز, وتستمر هكذا في التعامل مع الحالات بدم بارد وبأعصاب حجرية أسأل نفسي هل يجب أن أكون هكذا حتي أكون مهنيا, هل علي أن أكتم ألمي وأكتفي بتوثيق اللحظة, وأتعامل مع الحالات ببرود, أو أن أبقي إنسانا, أتألم لهذا وأبكي لذاك, ثم بالأساس كيف بوسع المرء أن ينجح, وكيف يصل عمله إلي شغاف قلوب الناس إذا لم يخرج من القلب المنفعل به, لكن هل في القلب متسع لكل هذا الألم أحيانا يصيب العجز والشك والإكتئاب الذين ينقلون الصورة, إنهم يتشككون في جدوي ما يفعلون, وماذا تفعل الكلمة مكتوبة أو مسموعة أو مرئية لأناس في حاجة إلي شربة ماء أو دواء, أو ضمادة توقف الجرح النازف, لكن هل يتحرك العالم إلا علي وقع الكلمة مللت يوما من إيقاع الحرب في البوسنة والهرسك, فقررت الذهاب إلي الشيشان في حربها الأولي بين عامي أربعة وتسعين وستة وتسعين من القرن الفائت, في المرة الأولي بقيت هناك حوالي ثلاثة أسابيع, وفيها عشت أياما من أصعب أيام حياتي, حتي أني شعرت بالأمان والسعادة وأنا عائد إلي البوسنة بكل مآسيها الجارية, ذلك لأن ما كان يحدث في الشيشان أشد فداحة من الحاصل في البوسنة, لكن الناس لا تعلم, لأن الإعلام الدولي لغرض في نفس يعقوب قرر والحرب جارية أن يتوقف فجأة عن التغطية, وكأن الحرب أنتهت, وكأن الناس لا تموت كل يوم, وكانت حصيلة الرحلة مساهمة في أن الناس تعلم يسعدك شعور أنك تفعل شيئا, أو تسهم في فعل شئ, حتي ولو كان مجرد إشارة في إتجاه الجناة, تدلي بشهادتك أمام الله ثم أمام التاريخ, يفرحك أنك تغلبت علي الألم, فضحته أمام عيون العالم, أنتصرت عليه, لكن سرعان ما تكتشف بعد سنوات عمرك الطويل أن معركتك مع الألم طويلة وضارية, وأنك إذا ما هزمته ظل عالقا بك