التنوع والتعدد والاختلاف سمات بشرية فطر الله الناس عليها ولولا ذلك لفسدت الأرض بنص القرآن الكريم, إلا أن الخوف والتوجس المتبادلين بين أصحاب الأيديولوجيات المختلفة خصوصا بعد ثورة25 يناير هما الأزمة الحقيقية التي يعيشها مجتمعنا الآن مما جعل رجل الشارع يسدد ضريبة يومية من الارتباك والتوتر كان في غني عنها ليظل الفقر عنوانا ثابتا لمجتمع ما بعد الثورة كما كان قبلها في ظل غياب حوار اجتماعي حقيقي يستهدف تحرير الوطن من براثن أمراض عديدة عضوية ونفسية نهشت معظم مفاصله وفي ظل إصرار علي عدم الخروج من هذا المأزق الذي يجد فيه البعض غايته لتوجيه سهام النقد إلي الطرف الممسك بزمام السلطة. فعلي الرغم من حاجة المجتمع الملحة إلي الاستقرار فإن أيا من الأطراف لا يري إيجابيات في الطرف الآخر فدأب هؤلاء وأولئك علي التنقيب عن السلبيات حتي التاريخية منها بهدف التشكيك في النيات والقدرات واتخذوا من وسائل الإعلام ميدانا للاستعراض دون الأخذ في الاعتبار عواقب تدمير الإرادة لدي شعب كان من المهم في هذه المرحلة رفع الروح المعنوية لديه بالتحفيز علي العمل والإنتاج عقب نشوة الزهو بالثورة. ودائما ما كانت جلسات الحوار السياسي وحتي الاقتصادي مشحونة بالتحفز وربما التخوين في إطار صراع الإرادات وليس اختلاف الرؤي دون تغليب المصلحة العامة للوطن مما أطال من دوامة التشتت ولم نستطع بالتالي أن نخرج من نفق الانتقام ومستنقع الإقصاء إلي مصالحة حقيقية علي غرار تجربة الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا وهو أمر تتحمله كل القوي السياسية التي لم نجد بينها من يتحلي بشجاعة أدبية يطرح من خلالها برنامجا واضحا في هذا الشأن بالرغم من قناعة بعضهم بأهمية ذلك. وسوف أظل أردد ما قاله آفي ديختر الرئيس السابق لجهاز الشاباك الإسرائيلي في محاضرته بمعهد أبحاث الأمن القومي من أن تفوق إسرائيل القوي في مصر يعتمد علي شركائها من رجال الأعمال وأصدقائها من الإعلاميين المصريين, وهي قضية إن صدقت فنحن أمام تحد خطير يجب أن نواجهه بكل شجاعة من خلال أجهزتنا الأمنية والرقابية ويجب عدم التغاضي عنها تحت أي مبرر وإن كنا بالتأكيد سوف نخجل منها إلا أن الأمر لم يعد يحتمل المزيد من لعبة التوازنات والاستقطاب علي حساب المصلحة العليا لوطن عاني كثيرا في السابق من مثل هذه الاختراقات سواء من عدو ظاهر أو آخر كامن وهي كارثة ترتبط بعلاقة وثيقة مع قضايا التمويل الأجنبي المنظورة أمام المحاكم التي تهاونت معها الدولة في السابق ومازالت تلقي بظلالها علي مسرح الأحداث حتي الآن خاصة السياسية منها. فنحن أمام حديث عن134 مليار دولار منهوبة من مصر خلال السنوات الثلاثين الماضية من بينها54 مليارا في السنوات الثماني الأخيرة, ونحن أمام عشرات الآلاف من الأفدنة تم الاستيلاء عليها لصالح فئة محدودة في إطار صفقات معلومة, ونحن أمام تريليون و250 مليار جنيه ديونا علي الدولة منها750 مليارا في السنوات الست الأخيرة فقط, ونحن أمام دول من المفترض أنها متحضرة تحترم المواثيق الدولية إلا أنها تتعامل بلا مبالاة وعدم اكتراث مع هذه القضية, وبالتالي لم نحصل علي أي من هذه الأموال حتي الآن, ويبدو أننا لن نحصل, وفي الوقت نفسه يجب أن نعترف بأننا نتعامل في مصر مع قوانين مطاطية عقيمة ومتشابكة يصعب أن تحقق العدالة المرجوة لبلد ثائر, وهو ما يحتم علينا إعادة النظر في التعامل مع هذه الأزمة بمقاييس الواقع من عدة وجوه أهمها: التفاوض المباشر مع هذه الفئة التي نهبت أموال الشعب وثرواته سواء القابعون منهم في السجون أو الذين مازالوا يمرحون خارجها بهدف استرداد أكبر قدر ممكن من هذه الأموال. التصالح مع هؤلاء في جرائم المال العام دون غيرها من جرائم الدم مقابل حريتهم دون السماح لهم بممارسة أي أنشطة سياسية أو حتي اقتصادية علي أرض هذا الوطن مع إقرارهم بذلك تحريريا. الضغط علي الدول التي استقبلت هذه الأموال مع الأخذ في الاعتبار أن مصر ليست دولة هامشية فلدينا من أدوات الضغط الكثير والكثير لتحقيق هذا الهدف, خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أننا نسعي إلي استرداد حق مسلوب, وليس الحصول علي منة من أحد. بدا واضحا أننا لا نهتم بهؤلاء الهاربين إلي دول أخري حتي من كان قبل الثورة, وهو أمر غاية في الخطورة فلا يمكن بأي حال إقامة علاقات متميزة مع أي من البلدان التي تأوي هاربين مصريين بأموال شعب عاني كثيرا, ومازال يعاني, وبالتالي فلا بد أن نطالب بتسليمهم. يجب أن نعترف بأن المباحثات التي أجراها وزير الخارجية كامل عمرو الأسبوع الماضي مع نظيره البريطاني ويليام هيج التي تناولت, ضمن ما تناولت, عودة الأموال المصرية والتي تم تهريبها إلي بريطانيا قد برهنت علي أن هذه القضية تجد أولوية لدي القيادة السياسية في مصر وهو ما يعطي بارقة أمل خاصة بعد عرض هيج بأن يوجد محقق بريطاني في مصر للعمل بشكل مستمر مع فريق التحقيق لاتخاذ الإجراءات المطلوبة ليس من خلال الاشتباه وإنما بأدلة واضحة- علي حد قوله- وهو بذلك يكون قد ألقي بالكرة في الملعب المصري الذي يجب أن يتحمل المسئولية كاملة دون تقاعس, خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن كل الجهود السابقة, مع بريطانيا تحديدا علي مدي العام ونصف العام الماضيين, لم تسفر سوي عن تجميد45 مليون جنيه استرليني هناك وهو رقم هزيل مقارنة بالمليارات المهربة إلي بريطانيا. إلا أنه يجب التأكيد علي أن هناك خطوات بالغة التعقيد في القوانين الغربية, وحتي الأمريكية لاسترداد مثل هذه الأموال, من بينها ما يتطلب أحكاما قضائية واضحة في هذا الشأن وهي أمور قد تعرقل العملية برمتها, مما يؤكد ما أسلفناه عن أهمية التفاوض مع هؤلاء المتهمين ومن هم علي طريق الاتهام, وحسب معلوماتي أنهم كثر, لإدراك الغاية بأقل التكاليف مع الأخذ في الاعتبار قيمة الزمن, خاصة إذا أخذنا في الاعتبار المحنة المالية التي تعيشها الدولة وعدم استطاعتها ملاحقة المطالب الفئوية اليومية خاصة ما يتعلق منها بتعيينات المؤقتين ورفع رواتب وتسديد ديون داخلية وخارجية إلي آخر ذلك من سلسلة طويلة من المطالب العاجلة التي يمكن أن تنوء بحملها أي حكومة حزبية كانت أو ائتلافية, كما يجب ألا نغفل أنه بجانب هذه القوانين المعقدة هناك أيضا حالة من الاسترخاء لدي هذه الدول في التعامل مع تلك القضايا لأسباب عديدة, يتعلق أهمها بعلاقات مشبوهة أحيانا بين مودعي هذه الأموال وتلك الدول, والثاني منها يتعلق باستفادة اقتصاديات هذه الدول من وجود هذه الأموال. فبعد أن طلبت دول الربيع العربي المساعدة من الدول الثماني الكبار في استرداد الأموال المهربة أصدرت الولاياتالمتحدةالأمريكية دليلا في هذا الشأن يشرح الخطوات التي يجب المرور عليها في مثل هذه القضايا, وهي وزارة العدل والشعبة الجنائية وقسم مصادرة الموجودات وغسل الأموال ومكتب الشئون الدولية بالشعبة الجنائية ووزارة الأمن الداخلي ومباحث الأمن الوطني ومكتب التحقيقات الفيدرالي ويتطلب ذلك وجود ولاية قضائية أجنبية, وبالتالي كان من الطبيعي تحميل الحكومة المصرية مسئولية التقصير في استيفاء متطلبات استرداد هذه الأموال التي لا يمكن استيفاؤها مادامت النية مبيتة في عدم التعاون, وهي نفس الذريعة التي ساقتها الحكومة البريطانية من قبل بعد تقارير مصرية عن تلكؤ البريطانيين في عملية تجميد هذه الأموال, وهو نفس النهج التي سارت عليه أيضا معظم الدول الأوروبية المعنية بهذا الشأن. علي أي حال.. إذا كانت المصالحة مع هذه الفئة التي نهبت أموال الشعب أصبحت ضرورة ملحة من أجل المصلحة العامة فإن المصالحة بين القوي السياسية الموجودة علي الساحة لا تقل أهمية,إلا أننا لم نبدأ حتي الآن لا بهذه ولا بتلك, علي الرغم من أن الرأي العام مهيأ تماما الآن لمثل هذه المبادرات التي يجب إطلاقها بقوة إذا أردنا أن نعبر هذه المرحلة خاصة أننا وجدنا من يعترضون علي الاقتراض الخارجي لأسباب دينية ولهم أدلتهم, ومن يعترضون علي المعونات والمنح الأجنبية لأسباب تتعلق بالكرامة ولهم حجتهم, وفي الحالتين نحن في مأزق حقيقي يتطلب الاعتماد علي النفس وهو أمر لن يتأتي بالفرقة وتقسيم المجتمع وإنما بلم الشمل نحو توحيد قوي الإصلاح من أحزاب وحركات ومنظمات نحو هدف واحد هو مصلحة الشعب كل الشعب حتي يمكن أن نجتاز أولي معاركنا ضد الفساد وذلك لان إعادة هذه الأموال مجرد خطوة في هذا الشأن. فهناك ممتلكات الدولة المنهوبة خاصة ما يتعلق منها بالأراضي, وهناك شركات القطاع العام التي تم بيعها بأبخس الأثمان والتي تبلغ نحو مائتي شركة لم يدخل خزينة الدولة من حصيلتها سوي16.5 مليار جنيه, بينما كان الرقم المعلن عند التقييم المبدئي500 مليار جنيه, وما واكب ذلك من حديث عن عمولات تصل إلي35 مليارا خلال14 عاما, ناهيك عما سببه ذلك من أزمات اجتماعية بعد طرد وتسوية حالات ما يزيد علي700 ألف عامل من هذه الشركات قبل خصخصتها, وهناك أيضا من أثروا ثراء فاحشا من تجارة محرمة مثل السلاح والمخدرات والبشر, وهناك من تربحوا من استغلال النفوذ, ومن تعاونوا مع جهات أجنبية, وجميعهم في النهاية ضلوا الطريق في ظل نظام فاسد جثم علي صدورنا عدة عقود, إلا أنه قد آن الأوان لفتح كل هذه الملفات التي سوف تظل مغلقة إذا ما ظلت حالة التناحر السياسي بهذه الصورة اللافتة, وفي هذه الحالة سوف نلقي باللائمة علي الطرف الثالث أو اللهو الخفي. وإذا كان قد تم تشكيل لجنة أخيرا لاسترداد الأموال المنهوبة, وإذا كانت هناك لجنة بمجلس الوزراء لفض المنازعات, فإننا سوف نظل نطالب هذه وتلك بالعمل بشفافية وبخطط معلنة واضحة يقف من خلالها الشعب علي ما تحقق في هذا الشأن وذلك لأن هذه الأموال والأراضي المنهوبة ملك للشعب, كما أن القوي السياسية الموجودة علي الساحة الآن والتي لم نعد نستطيع حصرها تصبح هي الأخري مطالبة بتوضيح موقفها من المصالحة الوطنية ككل, والذي يجب أن ينطلق من رغبة الشعب في الإستقرار بعيدا عن المزايدات وبمنأي عن الشعارات والبدء فورا في حوار وطني يسعي إلي تحقيق هذا الهدف بنيات خالصة تغلب فيها مصلحة الوطن علي المصالح الشخصية أو الحزبية, وإلا فإننا سوف نكون أمام حوار عقيم كالحوارات السابقة. من المهم إذن أن ندرك أن التوافق المجتمعي سوف يلقي بظلال إيجابية علي الاستثمار الأجنبي, وسوف نجني أيضا آثاره الآنية علي حركة السياحة, كما ستشهد الحالة الأمنية هي الأخري تغييرا سريعا, والاقتصادية تطورا ملموسا, ومن هذا وذاك سوف نستعيد ثقتنا بأنفسنا وثقة العالم بقدراتنا وهي أمور تجعل من هذا التوافق فريضة تعززها قوة ضغط الشارع الذي يجب أن تكون له الكلمة العليا في مثل هذه الظروف, فلم نعد في حاجة إلي أوصياء, كما لم تعد الحالة الراهنة تحتمل المزيد من المهاترات وهو الأمر الذي يجب ان تدركه القوي السياسية علي اختلاف توجهاتها حتي يمكن العبور بالسفينة الي بر الأمان. المزيد من مقالات عبد الناصر سلامة