يستوحش الصائم الحقيقى نفحات شهر رمضان التى تُعَدُّ زادًا حقيقيًا لذوى الهمم العالية، وباعثًا للأمل الفسيح فى نفوس الأمة على العمل والإنتاج والإتقان، وموسمًا مباركًا لتنافس المسلمين من خلال حسن الخُلُق والعمل الصالح من الصيام والصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن وقيام الليل والاعتكاف..إلخ. فسرعان ما تفتر أغلب هذه النفوس الجادة مع غروب شمس آخر يوم من شهر رمضان الفضيل حتى تعود لسابق عهدها من إقلال الرغبة فى الإكثار من العمل الصالح، وانقطاع الهمة فى مراعاة محاسن القيم ومكارم الأخلاق، وهو أمر ليس غريبًا على طبيعة الإنسان وأحواله؛ لأنها لا تسير على نمط واحد؛ فتارة يكون الإنسان فى همة ونشاط، وتارة أخرى يكون فى رقود وتكاسل، وهذا ما قصده النبى صلى الله عليه وسلم بقوله لحنظلة رضى الله عنه: «ساعة وساعة» حينما جاء يشكو إليه مثل هذه الأحوال المتقلبة. ومع ذلك فينبغى على المسلم أن ينطلق من هذه المناسبات المباركة لتحقيق رسوخ إيمانه وإصلاح ضميره وشأنه وزيادة اتصاله مع الله تعالى ومع خلقه؛ فضلا عن تزكية نفسه وتهذيب حاجاته وضبط رغباته وشهواته وإعلاء شأن العمل والإصلاح والأخلاق والقيم؛ لأن ذلك كما هو مطلوب فى شهر رمضان مطلوب أيضًا فى غيره من الشهور وعلى مر الأوقات عبر العُمُر حتى يتحقق المقصد الأعلى بتقوى ومراقبةٍ لله تعالى وهَجرِ ما نهى الله عنه. ومن منن الله تعالى أنه وَالَى بين مواسم البركة والخير؛ فهى متعاقبة ومتكررة مع اختصاص كلٍّ بفضل خاص ومزية، فبعد رمضان يأتى شهر شوال وفيه يستحب للمسلم أن يصوم ستة أيام منه، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» (صحيح مسلم/ 1164)، ومعنى ذلك أن شهر رمضان يعدل صيامُه صوم عشرة أشهر، وتعدل الستة أيام من شوال شهرين، ومن ثمَّ يكون قد حاز أجرَ صيامِ سَنَة، وإن دَاوَمَ على ذلك كان كصيام الدَّهرِ كُلِّه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «جَعَلَ اللهُ الْحَسَنَةَ بِعَشْرٍ، فَشَهْرٌ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَسِتَّةُ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ تَمَامُ السَّنَةِ» (سنن النسائى الكبرى/ 2874). ثم يأتى بعده موسم الحج وهو موسم مبارك تنشر فيه الرحمة والمغفرة على الحجاج وأهل الموقف كما فى قوله صلى الله عليه وسلم: «الحجاج والعمار وفد الله، إن سألوا أُعْطوا، وإن دعوا أجيبوا، وإن أنفقوا أخلف لهم، والذى نفس أبى القاسم بيده ما كبر مكبر على نَشَز، أى من أى محل مرتفع، ولا أهَلَّ مُهِلٍّ على شَرَف من الأشراف إلا أهلَّ ما بين يديه وكبَّر حتى ينقطع به منقطِع التراب؛ أي: ينتهي» (شعب الإيمان للبيهقي/ 3809). كما ينال غير الحاج فيها الأجر الجزيل والثواب الكثير على ما يفعله فيها من الصالحات والأعمال الطيبات، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: «ما العمل فى أيام أفضل منها فى هذه؟» قالوا: ولا الجهاد؟ قال: «ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء».. إن خير الله تعالى وفضله العميم مبثوث فى سائر الأيام ومختلف الشهور والمواسم لا يتوقف عند بعضها ولا ينقطع بمرورها، بل إن هذه المواسم تعد فى حقيقتها محطات إمداد للمسلم فى دينه ودنياه؛ لكونها فرصة عملية تيسر له التحلى بمكارم الأخلاق والمداومة على العمل الصالح وعدم الملل من فعل الخير والبر وإن قلَّ، فالمسلم من شأنه مواصلة الخير بالخير والحسنة بأخرى، اقتداء بما كان عليه النبى صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه (متفقٌ عليه)، فضلا عن أن الأعمال الصالحات مطلوبة على الدوام ولن ينتهى ثوابها بعد انقضاء رمضان، فالجزاء على غالب الحسنات مضاعف بعشرة أضعاف كما فى قوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأنعام: 160]. لمزيد من مقالات د. شوقى علام مفتى الجمهورية