أحد الأخطاء التى تقع فيها بعض الشعوب أنها تمنح الجهات الخارجية قوة تفوق عشرات المرات قوتها الحقيقية. ترى فيها الآمر الناهى القادر على ترجيح كفة جماعة على أخرى فى الحكم أو المعارضة. تتيبس الدماء فى العروق فى انتظار القرار الفصل، كأن القوى الداخلية عقمت عن تحريك المياه فى بلادها، وسلمت بأن الانتصار أو الانكسار يأتى من الخارج. تلعب الكثير من الدوائر الخارجية أدوارا معقدة ومركبة ومتعددة، وتسهم بأشكال مختلفة فى دعم جماعة على حساب أخرى عندما تكون الرؤية واضحة، ولأن غالبية الأزمات المنتشرة فى المنطقة تتسم بالغموض والالتباس والاستعداد للانفتاح على مسارات متناقضة باتت التقديرات الخارجية مرتبكة وغير محددة، ويلجأ أصحابها إلى محاولة الامساك بعدد من خيوط اللعبة عبر فتح حوارات مع شخصيات وأحزاب وتنظيمات فى الحكم والمعارضة. ظهرت معالم المعادلة الفضفاضة فى تطورات الأزمة فى السودان، فقد حظى المجلس العسكرى الانتقالى بقبول قوى كثيرة كانت تدعى أنها ترفض تدخلات الجيوش فى الأمور السياسية، ووجهت تحذيرات صارمة بعد عزل الرئيس عمر البشير، عقب ثورة شعبية رافضة لاستمرار حكمه. وتلاطمت هنا المياه وتغيرت الوجوه، لكنها حافظت على سلطة المجلس العسكري، ومنحته مزايا عدة لتمكينه من ترتيب أوضاع المرحلة الانتقالية والوعد بتسليم السلطة لحكومة مدنية، وهى صيغة تركت تفاصيلها للشعب السوداني. فتحت القوى الخارجية نفسها اتصالات ساخنة مع تحالف الحرية والتغيير، باعتباره الجبهة المقابلة، وربما فتحت قنوات خلفية مع أحزاب وحركات معارضة أخرى، لأن السيولة فى السودان قد تجعل الطريق ممهدا أمام أى جماعة للقفز على السلطة بطريقة شرعية من خلال الانتخابات مثلا، أو غير شرعية من خلال انقلابات وثورات مضادة، وفى جميع الحالات فرضت الهشاشة الظاهرة فى التوازنات عدم وضع قوى كثيرة رهاناتها على جهة واحدة. لم تحسن قوى الحرية والتغيير قراءة تفاصيل المشهد، وتصورت أن مجرد رفع لافتات للحكم المدنى يكفى لجذب تعاطف داخلى معها، ويبرر جلب مساندات خارجية حاسمة، تجبر المجلس العسكرى على التسليم بمطالب المعتصمين. وتجاهلت أن الصفوف الداخلية منقسمة، وهناك أحزاب تقليدية احتفظت لنفسها بمسافة بعيدة عنها، كما أن الموقف الخارجى متذبذب، لكنه فى النهاية لن يميل صراحة لمصلحة طرف أو يقدم دعما ملموسا لطرف على حساب آخر، وكل ما يملكه إدانة وشجب وخلافه عندما تسيل الدماء على الأرض أو يرتكب طرف حماقة عنف يجبر البعض على عدم التمسك بصمتهم، حدث شيء من هذا القبيل صباح الاثنين الماضي، عندما قامت قوات الدعم السريع بفض الاعتصام المستمر منذ نحو شهرين أمام مقر وزارة الدفاع بالخرطوم، فبعد وقوع عشرات الضحايا توالت البيانات الرافضة للخطوة، ودعت بعض الدول لاجتماع عاجل فى مجلس الأمن، وتسابقت منظمات إقليمية فى توجيه الخطب والتنديد بالاعتداء على المدنيين، كسب تحالف الحرية والتغيير تعاطفا ملحوظا، لكنه خسر مكانا رمزيا مهما، وهو مقر الاعتصام، قبل أن ينتهى من حسم المشاورات مع المجلس العسكري، ربِما تكون الخسارة جاءت مصحوبة بعنف مفرط ووقعت مبكرا وقبل أن تكون قيادة التحالف مستعدة للتعامل مع تداعياتها، لكنها حدثت كى تعيد المعارضة النظر فى الطريق الذى تسير فيه، فلا يوجد اعتصام مدى الحياة، ولا توجد جهة تتفاوض وفِى يدها ورقة واحدة وتفتقر للبدائل. يرتهن التعويل على دعم الجهات الخارجية لشعارات الدولة المدنية بما تحققه من مصالح. وأثبتت التطورات الإقليمية أن هناك تأييدا متصاعدا لحكم المؤسسات العسكرية، لأن قوى كثيرة فى العالم تنظر لها على أنها قادرة على التعامل مع التحديات الإقليمية، ولديها مرونة فى التكيف مع المعطيات الدولية، فقد انتهت مرحلة الشعارات الزاعقة وتقدمت التفاهمات والقواسم والمصالح المشتركة، وهو ما يجعل إمكان التغيير متوقعا فى أى لحظة، لأن المنافع هى التى تحدث الفارق وتحدد الانحياز لطرف ونبذ آخر. باتت الكرة فى ملعب القوى السودانية لا غيرها، ومهما يبلغ حجم التأثيرات لن تتورط قوة إقليمية أو دولية مباشرة فى الأزمة مباشرة. وسوف يظل فك الشفرة فى الداخل، ومن يتطلعون للحسم بعيدا عنه سوف يتعرضون لخسائر كبيرة. وفِى ظل المراوحة الحالية وعدم استبعاد حدوث مفاجآت فى الأزمة لن تستطيع دولة الاقدام على تأييد طرف والوقوف فى وجه آخر بوضوح، فكل الاحتمالات واردة للتغيير، ما يفرض عدم المجازفة لتبنى رؤية أحادية. على تحالف الحرية والتغيير عدم الانسياق وراء المفردات العقيمة والتعامل بواقعية مع الأزمة، لأن هناك متربصين كثيرا يريدون كسر المزيد من أجنحته المؤثرة، وبعد فقدان ورقة الاعتصام على القوى الحية فيه إعادة النظر فى مسيرته القصيرة واستخلاص العبر، فالقوى الخارجية لن يكون تعاطفها الانسانى سباقا على مصالحها الحيوية. اذا أراد التحالف استكمال طريقه الناصع عليه التحلى بالمرونة اللازمة قبل أن ينفرط عقده، وتستعيد الحركة الإسلامية بريقها، فهى البديل الوحيد الجاهز والمستعد لتقديم التنازلات القاسية للقفز على السلطة، أو على الأقل تليين المواقف الصارمة الرافضة لحضورها السياسى والالتزام بقواعد اللعبة الجديدة. تستطيع قوى الحرية والتغيير تقديم نموذج سياسى جاد فى السودان، إذا راعت التحول الحاصل فى موازين القوى، فما قبل فض الاعتصام مختلف عما بعده، وتحقيق نصف انتصار أفضل من الخروج بهزيمة ساحقة، ولا تنتظر مددا من أى جهة، وعليها الثقة فى أنها قادرة على التفاهم مع المجلس العسكري، والوحدة التى بدت عليها طوال شهرين معرضة للاهتزاز، فقد كان مقر الاعتصام صمام أمان، اختفت وراءه الكثير من معالم الانقسام، لأن الكتلة الحرجة فيه، وهى تجمع المهنيين، درجت على تأكيد عدم انتمائها لأحزاب وقوى سياسية منظمة. بالتالى على التحالف أن يلملم قواه ويستعيد الكرة أولا قبل بداية الشوط الثانى من المباراة، الذى سيحدد تفوق المجلس العسكرى أم قوى الحرية والتغيير، أم تعادلهما فى عدد الأهداف، وهى النتيجة المناسبة لحالة السودان، التى ترضى غالبية الأطراف فى الداخل والخارج، قبل أن تتدهور الأوضاع. لمزيد من مقالات ◀ محمد أبوالفضل