بقدر ما كانت ثورة 1919 مناخا جديدا وأفقا مفتوحا شجع المثقفين المصريين على طرح أسئلتهم والكشف عن مواهبهم والتفكر بعقل والتعبير بحرية بقدر ما أخاف هذا المناخ الجديد القوى الرجعية وعزلها وأثارها ضد المثقفين الذين تعرضوا على يد هذه القوى لصور من القمع والبطش والعدوان والمصادرة باسم الدين تارة وباسم السلطة تارة أخرى أو باسمهما معا فى معظم الأحيان، لأن السلطة تستخدم الدين ورجاله ، ولأن رجال الدين يستعينون بالسلطة ورجالها . وهذا واضح فيما حدث للشيخ على عبد الرازق الذى اتهم بالتجديف والخروج على الإجماع لأنه أعلن فى كتابه «الاسلام وأصول الحكم» أن الخلافة نظام سياسى وليست مقاما دينيا على نحو مارأينا فى مقالة الأربعاء الماضى. وهو واضح كذلك فيما حدث للدكتور طه حسين فى واقعتين متتاليتين: الأولى عندما قدم رسالته التى كتبها عن أبى العلاء المعرى ليحصل بها على الدكتوراة من الجامعة المصرية فانهالت عليه التهم التى انهالت على أبى العلاء، لأن أبا العلاء دافع فى شعره عن العقل، وانحاز لحرية الفكر، وندد بالمتشددين المتطرفين من رجال الدين الذين يثيرون الفتن ويشعلون الحرائق . يقول فى هؤلاء : غدا أهل الشرائع فى اختلاف تقض به المضاجع والمهود فقد كذبت على عيسى النصاري كما كذبت على موسى اليهود ولم تستحدث الأيام خلقا ولا حالت من الزمن العهود ويقول فيهم: تلوا باطلا ، وجلوا صارما وقالوا صدقنا فقلنا: نعم! ومن المؤكد أن طه حسين كان يحدثنا فى كتابه عن أبى العلاء المعرى ويعرض علينا شعره وفكره دون أن يتبنى بالضرورة كلامه وإن تعاطف معه وقدم من خلاله وجها آخر للعصر الذى عاش فيه أبو العلاء قبل ألف عام ولم يكن كله تشددا او انغلاقا، وانما تميز كما نرى بقدر من سعة الصدر علينا أن نستفيد بها ونتعلم منها حين نفكر ونعبر وهذا ما لم ينتبه له بعض الذين قرأوا رسالة طه حسين فاتهموه بالإلحاد وطالبوا بحرمانه من حقوق الجامعيين وسحب ما حصل عليه من شهادات وإجازات . لكن سعد زغلول تدخل وأوقف هذه الحملة. أما الواقعة الأخرى التى تعرض فيها طه حسين للمنع والمصادرة فكانت عندما أصدر كتابه عن «الشعر الجاهلي» والتزم فيه منهج الفيلسوف الفرنسى ديكارت الذى يتطلب من الباحث ألا يسلم بشئ فيما يتصل بالموضوع الذى يبحثه الا بعد الشك فيه وطرح الأسئلة عليه واختبار صحته لإظهار الحقيقة والوصول الى اليقين. وقد نظر طه حسين فى الشعر الجاهلى فوجد أنه لا يمثل الحياة التى عاشها العرب فى الجاهلية ، ولا يمثل اللغة التى كانوا يتكلمونها بلهجاتها المختلفة فى جنوب الجزيرة العربية وشمالها ، ولهذا حكم عليه بأنه منتحل لم يقله الجاهليون وإنما قاله الرواة الذين ألفوه وتداولوه فيما بينهم ليجعلوه أصلا يرجعون إليه ويستشهدون به لأثبات مايريدون إثباته فى السياسة واللغة والدين. لكن عددا من رجال الأزهر والكتاب والمشتغلين بالسياسة ثاروا ضد طه حسين واتهموه باهانة الاسلام دين الدولة والطعن فى نسب الرسول والفصل بين الدين والعلم، وطالبوا بمحاكمته وهو ماحدث بالفعل فقد حقق مع طه حسين أمام النيابة العامة التى آخذته فى بعض ماذكره وما أخذه عن العلماء الغربيين، لكنها انتهت إلى أن غرض طه حسين لم يكن الطعن أو التعدى على الدين كما قد يبدو للناظر فى بعض عباراته،وإنما وردت هذه العبارات فى مجال البحث العلمى مع اعتقاد المؤلف أن بحثه يقتضيها، وحيث إن القصد الجنائى غير متوافر لذلك حفظت الأوراق فى هذه القضية. وإذا كان سعد زغلول قد خلع حمايته على طه حسين فى الواقعة الأولى فقد تخلى عنه فى الواقعة الثانية وانضم لخصومه وهاجمه فى بعض تصريحاته. والسبب أن طه حسين كان مرتبطا بالأحرار الدستوريين خصوم الوفد. وهو ذات السبب الذى من أجله وقف سعد زغلول ضد الشيخ على عبدالرازق. لكن مثقفى الأحرار الدستوريين وقفوا الى جانب طه حسين كما وقف الى جانبه شاعر النيل حافظ إبراهيم الذى نظم فى هذه الواقعة هذين البيتين! إن صح ماقالوا وما أرجفوا وألصقوا زورا بدين العميد فكفر طه عند ديانه أحب من إسلام عبدالحميد وعبدالحميد هذا هو الدكتور عبد الحميد سعيد الذى كان عضوا فى مجلس النواب ورئيسا لجمعية الشبان المسلمين. ومن الطبيعى أن يكون هذا الموقف هو موقف شاعر النيل الذى تعرض هو الآخر لموقف مشابه عبر عنه فى قصيدة لم تنشر فى الطبعات الأولى من ديوانه ونشرت فى الطبعة الأخيرة التى أصدرها المجلس الأعلى للثقافة فى الذكرى الخامسة والسبعين لرحيل حافظ تحت عنوان «من شعر حافظ فى ثورة 1919». هذه القصيدة نشرت دون توضيح للملابسات التى قيلت فيها. لكن حافظ إبراهيم يعتذر فيها عن صمته حيث كان يجب عليه أن يرفع صوته. وهو يتحدث عن رقباء فرضوا عليه هذا الصمت وحالوا بينه وبين أداء واجبه نحو وطنه. ولعله يشير هنا إلى رؤسائه فى السنوات التى كان فيها موظفا فى دار الكتب وكان لهؤلاء الرؤساء على مايبدو موقف من ثورة 1919 لايتفق معه أن يعلن حافظ وقوفه مع الثورة أو تحيته للثوار يقول: وجشمونى على ضعفى وقوتهم أن أمسك القول حتى عن تحاياك وأرصدوا لى رقيبا ليس يخطئه هجس الفؤاد إذا حاولت ذكراك يحصى تردد أنفاسى ويمنعني نفح الشمائل ان جازت برياك منعت حتى من النجوى وسلوتها وكم تعللت فى البلوى بنجواك وربما كان طه حسين يشير إلى هذه المسألة وهو يتحدث عن حافظ وشوقى فيقول "وصل شوقى فى شيخوخته إلى ما وصل إليه حافظ فى شابه. لأن شوقى سكت حيث كان حافظ ينطق ونطق حيث اضطر حافظ إلى الصمت.. يالسوء الحظ! ليت حافظا لم يوظف قط. وليت شوقى لم يكن شاعر الأمير قط. ولكن هل تنفع شيئا ليت! لقد أسكت حافظ ثلث عمره. وسجن شوقى فى القصر ربع قرن. وخسرت مصر والأدب بسعادة هذين الشاعرين العظيمين شيئا كثيرا". لمزيد من مقالات ◀ بقلم أحمد عبدالمعطى حجازى