لا يحب الفلاسفة أن يطلق عليهم لفظ حكماء، لأن فى هذا اللفظ ادعاء وتعاليا. هم فقط بحسب تعريب الكلمة اليونانية محبون للحكمة. ولقد بقى من الفلاسفة عبارات مشهورة وأقوال مأثورة منتشرة فى جميع الثقافات. بعض هذه العبارات يعبر عن حكمة عميقة يسهل على أى امرىء أن يفهمها ويدرك معناها ويقدر ما تحتويه من دلالة كدرس من دروس الحياة. وهناك عبارات أخرى مأثورة ومحفوظة، لكنها تبدو كألغاز تبحث عن حل، أو ربما كطلاسم ينبغى فك شفراتها. لو قرأنا قول أفلاطون: الحياة أمل، من فقد الأمل فقد الحياة لاشك أننا سندرك معناها بسهولة ونعرف منها أن أفلاطون رجل حكيم. يندرج تحت هذه الفئة أقوال أخرى مثل قول جان جاك روسو: من الصعوبة بمكان أن يتحقق السلام بين شخصين يعتقد كل واحد منهما أن الله غاضب على الآخر، وكلنا يتذكر قول نيتشه: الضربة التى لا تقتلنا تزيدنا قوة. وهناك نماذج كثيرة من هذا النوع لدى أغلب الفلاسفة. والمدهش فى الأمر أنهم لم يتعمدوا قصداً صياغة عبارات كى تصبح حكمة وانما كتبوها فى إطار موضوع يبحثون فيه، ولكن التفات الناس إليها وإبرازهم لها هو الذى جعلها حكماً متداولة. أما النوع الثانى الذى يحتاج إلى تفسير، فنجده مثلاً فى قول أرسطو: الإنسان حيوان ناطق، أو قوله: الفضيلة وسط بين رذيلتين. هى عبارات لا تفصح عن معناها لأول وهلة وتستدعى إلماماً بتاريخ الفلسفة لكى نقف على دلالتها. ومن هذه العبارات ما يقدمه لنا تاريخ الفكر على انه علامة على بداية عصر معرفى جديد. فنحن نقول إن ديكارت هو أبو الفلسفة الحديثة لأنه القائل: أنا أفكر، إذن أنا موجود. ما دلالة هذه العبارة، ولماذا تحظى بهذه الأهمية الاستثنائية؟ تعلن هذه العبارة عن بدء تأسيس المعرفة الإنسانية على الذات، فالإنسان هو مصدر الحقيقة، والتى ينبغى أن يصل إليها بنفسه. وبالتالى تتضمن هذه العبارة تمرداً على كل السلطات سواء كانت سلطة الأقدمين أو الآباء أو المعلمين. وجاء جون لوك بعد ديكارت لكى نحفظ عبارته العقل يولد صفحة بيضاء، وهى تعنى أن الحواس هى مصدر كل معارفنا، وبالتالى فالحقيقة هى دائماً نسبية ومتغيرة، لا تستقر على حال. وجاءت هذه العبارة رداً على مفهوم الأفكار الفطرية والتى كان ديكارت يعتقد أن الإنسان يولد مزوداً بها ولا يحتاج للتجربة ليتأكد من أنها صادقة مثل قولنا الكل أكبر من الجزء. وهكذا انقسم معشر الفلاسفة إلى معسكرين: فريق يتمسك بالحقائق العقلية المطلقة والموضوعية والصالحة لكل زمان، وهو فريق ديكارت وأتباعه. وفريق آخر يؤيد المعرفة الحسية، فنحن قد نقول إن كوب الشاى ساخن وتقدم العبارة بالفعل حقيقة، لكنها بعد نصف ساعة سوف تتحول إلى خطأ. وهكذا فالحقائق مؤقتة، متغيرة ونسبية. هذا هو الوضع الذى حاول أن يتجاوزه الفيلسوف الألمانى كانط، الذى قال : تجربة بدون نظرية هى عمى، ولكن نظرية بدون تجربة هى مجرد لهو فكرى. ومعنى هذه العبارة أننا لو اكتفينا بالمعرفة الحسية فلن نستطيع أن نؤسس علماً. ولو اكتفينا بالعقل فقط فإننا سوف نشطح وراء خيالات وأوهام. فحين أخرج فى ذروة القيظ وأضع يدى على السيارة وأقول السيارة ساخنة، فعبارتى هذه ليست إلا ترجمة للإحساس، الذى شعرت به، أما إذا قلت الشمس هى سبب سخونة السيارة فإن كلامى لم يعد مقصوراً على الإحساس بل تدخل العقل وجمع بين ظاهرتين: الشمس والسيارة وأقام بينهما علاقة هى السببية، كل هذا لم يكن متضمناً فى عملية الإحساس ولكن جاء نتيجة نشاط العقل وتنظيمه للتجربة الحسية. ومن عبارات هيجل المعروفة كل ماهو عقلى واقعى، وكل ماهو واقعى عقلى، وهذه العبارة لا يمكن فهمها إلا فى إطار منهج الجدل الذى جاء به هيجل، ويقوم على فكرة أن العالم فى تغير دائم وكذلك العقل، وبينهما دائما تفاعل مستمر، فالعقل بملاحظته للعالم المتغير يتطور وتتغير أفكاره وتصوراته، وكل فكرة فى العقل تنزع إلى التحقق بصورة عينية مادية فى الواقع. وتوجد عبارة لماركس خضعت لتفسيرات متعددة، فهو يقول: لم يفعل الفلاسفة سوى تفسير العالم بطرق شتى، فى حين أن المهم هو تغييره.، وقد اختلف المفسرون حول تغيير العالم مهمة من؟ الفلاسفة أم قوى اجتماعية. كما أنه من الغريب أن يطلب ماركس تغيير العالم وهو الذى تحدث عن الحتمية التاريخية التى تفرض نفسها ضد إرادة البشر، وهو أيضا القائل بأن الإنسان صنيعة الظروف التى يعيش فيها. ولكنه رد قائلاً إنه بما أن الانسان صنيعة الظروف فعلينا أن نجعل هذه الظروف انسانية. كما قام أحد اتباع ماركس وهو الفيلسوف اليونانى كوستاس أكسيلوس بصياغة عبارة ماركس بصورة مناقضة قائلا: التكنولوجيا تغير العالم كل يوم بطرق شتى والمهم هو تفسيره.. ربما لكى نعرف إلى أين نحن ماضون!. لمزيد من مقالات ◀ د. أنور مغيث