البرلمان الأوروبى ليس «جهازا شرفيا».. ونوابه لا يتكالبون على عضويته فقط من أجل الوجاهة الاجتماعية و«المنظرة» .. فهو أقوى جهاز تشريعى فى العالم يتم اختيار أعضائه فى انتخابات معقدة تعد من أكبر العمليات الديمقراطية فى العالم، بعد الهند. ولعل ذلك الاهتمام الإعلامى الكبير الذى حظيت به انتخابات البرلمان الأوروبى التى جرت قبل أيام يفسر مدى أهمية الحدث، نظرا لانعكاساته على السياسات الخارجية للتكتل من جهة ، ولكون أوروبا تمر بظرف دقيق فى ظل تصاعد دعوات الانفصال بين أعضائها، وتكرار تجربة بريطانيا المأساوية. فصعود التيارات القومية، وتعاظم نفوذ الأحزاب اليمينية المتشككة فى جدوى البقاء ضمن كيان أوروبى موحد، بات ينذر بانفراط عقد الكيان الصامد منذ الخمسينيات. تلك الهواجس انعكست على نسب مشاركة الأوروبيين أنفسهم فى الانتخابات بدرجة فاقت مثيلاتها من قبل، واعتبرت الأعلى فى تاريخ الاتحاد منذ أكثر من عشرين عاما، إذ وصلت فى بعض الدول إلى 63%، بالرغم من أنها لم تتجاوز حاجز ال 43% فى عام 2014. النتائج أظهرت تفوقا ملحوظا للأحزاب القومية واليمينية فى كل من فرنساوإيطاليا والمملكة المتحدة، فضلا عن تزايد ثقة الناخبين فى الليبراليين والخضر، وحذرت، فى الوقت نفسه، من تراجع شعبية كتلتى البرلمان الكبريين التقليديتين، يمين الوسط ويسار الوسط ، على نحو قد يضطرهما للبحث عن تحالفات جديدة، للحفاظ على أغلبيتهما داخل البرلمان الأوروبي. فالتقديرات أظهرت حصول يمين الوسط، الممثل فى حزب «الشعب الأوروبى» على 179 مقعدا فقط، مقارنة ب 216 مقعدا عام 2014، وتراجع مقاعد الاشتراكيين والديمقراطيين إلى 150 مقعدا مقابل 191 فى الانتخابات السابقة ، بينما قفزت مقاعد الخضر إلى 67 مقعدا مقارنة ب50 مقعدا عام 2014. فى المقابل، حصد اليمين المتطرف فى فرنسا بقيادة مارين لوبان 24% من الأصوات، و30% فى إيطاليا بقيادة ماتيو سالفيني. ويتوقع المحللون أنه فى ضوء التقديرات المعلنة، سيسعى حزب الشعب الأوروبى لتشكيل ائتلاف كبير مع الديمقراطيين والاشتراكيين، والحصول على دعم الليبراليين والخضر، للحفاظ على أغلبيته المعهودة. كما سيسارع سالفينى للاستفادة من النتائج التى حققها القوميون فى بلاده وفى فرنساوبريطانيا لتأسيس تحالف جديد تحت قبة البرلمان ، يضم 12 حزبا على الأقل، للتعبير عن التيار المتصاعد الطامح لكبح قوى الاتحاد الأوروبى . ولكن ما هى صلاحيات البرلمان الأوروبي؟ وما اختلافه عن البرلمانات الوطنية؟ ومما يتألف، كى يكون ذلك الاقتتال على مقاعده ؟ البرلمان الأوروبى هو أحد أذرع الجهاز التشريعى فى القارة العجوز، إذ يتقاسمه مع المجلس الأوروبي، عبر مقاره فى بروكسل ولوكسمبورج وستراسبورج بفرنسا. حيث انه منوط بتمرير جميع القوانين الأوروبية. كما أنه المسئول عن جميع الأمور المالية داخل الاتحاد، بدءا من الميزانية العامة حتى جميع المنح والمساعدات الإنسانية التى تقدم للاجئين ولأغراض تنموية. إلى جانب ذلك، يعد برلمان أوروبا مسئولا عن الرقابة على سير العملية الديمقراطية داخل دول الاتحاد، ومتابعة جميع الأنشطة المجتمعية التى تمارس داخل دوله والاستعلام عنها ، والتحقيق فيها إذا لزم الأمر، فضلا عن الرقابة على أداء المفوضية الأوروبية ، الذراع التنفيذية للاتحاد، وتعيين رئيسها، وحلها اذا استدعت الضرورة، شريطة موافقة ثلثى أعضائه. كذلك، يعد البرلمان الأوروبى صاحب الكلمة النهائية والفاصلة فى قرار انضمام أى دولة جديدة للتكتل الأوروبى الموحد، ولا يحق مراجعة قراراته، أو الاستئناف عليها. أما عن تكوين البرلمان الأوروبى نفسه من الداخل ، فإنه يضم 766 نائبا، يمثلون 503 ملايين مواطن عبر أوروبا ، يتم انتخابهم بشكل دورى كل خمس سنوات بالاقتراع المباشر.الدول تختلف حصتها فى مقاعد البرلمان وفقا لتعدادها السكانى ، لتكون ألمانيا صاحبة أكبر عدد من المقاعد، 96 مقعدا، فى حين لا تقل مقاعد أصغر الدول عن 6 مقاعد. كما أن النواب تحت قبة البرلمان مقسمون داخل 8 تكتلات حزبية كبرى بناء على أفكارهم وتوجهاتهم الأيديولوجية، وليس وفقا لهوياتهم القومية. ويتعين على العضو داخل التكتل الحزبى التصويت بما يخدم أفكار مجموعته السياسية ، بغض النظر عن موقف دولته من القضية محل النقاش. لكن ذلك لا يعنى أن البرلمان الأوروبى يعمل بمعزل عن البرلمانات الوطنية أو فيما يتعارض مع مصالحها، بل أن العلاقة بينهما « تكاملية»، كما أقرتها معاهدة لشبونة، وتهدف فى النهاية إلى المصلحة العامة لكل دول الاتحاد. فيحق لبرلمان أى دولة، على سبيل المثال، الإطلاع على مسودات القوانين الأوروبية للتأكد من احترامها مبادئ عضوية الدولة، فضلا عن تقييم السياسات المتعلقة بالحرية والأمن والعدالة. كما يلتقى رؤساء البرلمانات والمتحدثون باسمه، كل عام سويا لوضع الخطوط العريضة لتعاونهم المشترك. كل هذا يفسر ذلك الحشد الذى سبق الانتخابات، والترقب على صفيح ساخن لنتائجه. فهل سيستطيع البرلمان الجديد إدارة الدفة بحنكة للعبور بأوروبا عبر تلك الفترة الاستثنائية فى تاريخ القارة ؟.