من الأمور المتفق عليها بين جمهور الأمة أنَّ أول ما نزل من القرآن هو الآيات الخمس الأولى من سورة العلق: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)». وكما يقول مصطفى حمدون أمين الباحث فى الفكر الإسلامى بجامعة القاهرة فقد جرت الألسنة والأقلام منذ القرن الأول من الإسلام بأن القرآن يدعو إلى القراءة والعلم، وأنَّ أول ما يشهد لهذه الدعوة هو أول كلمة نزلت منه (اقرأ)... ولكن إن كانت هذه الآيات قد دعت إلى القراءة والعِلم، فإنها قد علَّقَت هذه الدعوة بما يضمن نفعها، وهو أن تكون باسم ربِّنا، ومن أشهر المعانى التى ذكرها المفسرون لحرف الباء هنا أنها باء الاستعانة، والمراد منها واضح، وهو طلب العون من الله تعالى ، وقيل: هى باء المصاحبة، والمراد بالمصاحبة هنا، كما قال الطاهر بن عاشور [رحمه الله] فى تفسيره (التحرير والتنوير) «مصاحبة الفهم والملاحظة لجَلاله». ومما يدل عليه هذا التعليق أنه ينبغى للذين يريدون امتثال الأمر الإلهى بالقراءة أن يجتهدوا فى تحقيق الإخلاص لله حين يقرأون ما يبتغون من ورائه نفعًا. وفى اختيار وصف (الرب) هُنَا ما يناسب المطلوبَ ويُعين عليه؛ فإن رَبّ الشيء هو القيِّم عليه المدبِّر لشئونه، وإذا استعان القارئ بربِّه الذى خلق كل شيء، وخلق الإنسان وهو به أعلم، واستحضر قلبُه ذكرَ ربِّه وقيومِيّتَه تعالى حين يقرأ، مُخلِصًا لرَبِّه، راغبًا فى تحصيل علم من العلوم التى تسهم فى إعمار الدنيا والآخِرة، فإن هذا القلب سيُشرق فيه نور العلم النافع، ويحصل له من العلم ما يقوده إلى خير الدنيا والآخرة، ويكون داعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ فالله هو الأكرم وخزائنه لا تنفد. ومَن كانت هذه حاله حين يتعلَّم، فإنه قد أعان نفسه ليكون كما فى كتب السُّنة مِن الذين تضع لهم الملائكة أجنحتهم رضاءً بما يصنعون، وتستغفر لهم، ويستغفر لهم كل شيء حتى الحيتان فى البحر بكيفيةٍ لا يعلم حقيقتها إلا رب كل شيء ومليكُه... وصار بذلك مستحقا أن يكون من «العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهما، وإنما ورَّثوا العِلْم، فمَن أخذه أخذ بحظٍّ وافر». وكان أيضًا من العلماء الذين اختصهم الله بخشيته فى سورة فاطر: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ...(28)». أولئك كان سعيهم مشكورًا.