حتي قبل أن تجف دُموعها من أمام «10 دواننج ستريت» وبعد نعي سياسي مختصر جداً، بدأ المتنافسون علي خلافة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي حملاتهم الشرسة لنيل المنصب الذي يعد درة تاج السياسة البريطانية. ومن مسار أول 72 ساعة بعد اعلان عدد من الوزراء والوزراء السابقين الترشح لخلافة ماي يمكن توقع منافسة شرسة، دراماتيكية، مليئة بالطعنات والغدر. فقد ترشح بالفعل بوريس جونسون وزير الخارجية السابق الملقب ب «يوليوس قيصر»، ومايكل جوف وزير البيئة الحالي الملقب ب «بروتوس». ويتذكر الناخب البريطاني أنه في صيف 2016 عندما أعلن جونسون نيته الترشح لخلافة رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون كان جونسون المرشح الأكثر حظوظاً علي الورق وكل ما كان يريده وجود شخص ملم بالتفاصيل والملفات المعقدة وقادر علي صياغة استراتيجية انتخابية لقيادة حملته. واختار جونسون صديقه المقرب مايكل جوف. لكن جوف قرر أنه «الأحق بالمنصب» فسحب دعمه لعمدة لندن السابق في آخر لحظة. ولم يجد بوريس بديلاً عن الانسحاب، موجهاً لجوف العبارة الشهيرة «حتي أنت يا بروتوس». في النهاية خسر كلاهما وفازت تيريزا ماي، لكن علاقتهما لم تتعاف منذ ذلك الحين، وأغلب الظن أن جونسون عندما سمع أن جوف ترشح لخلافة ماي شعر بالدوار وعادت ذكريات طعنة الظهر. فبرغم كل كاريزما جونسون، غير ان جوف ذو رأس مال سياسي واضح وهو الكفاءة. جونسون ما زال يحتاج إلي إثبات أنه كفء، خاصة بعد إدائه الكارثي عندما شغل منصب وزير الخارجية في حكومة ماي، قبل أن يستقيل في نوفمبر من العام الماضي. هذه المرة يدخل جوف السباق بشكل مبكر ومباشر لمواجهة صديقه اللدود جونسون وستكون هذه معركة «تكسير عظام» من الطراز الأول. وسيتابعها البريطانيون وأوروبا والعالم بالكثير من الترقب، فإضافة إلي العنصر الشخصي في المواجهة بين جونسون وجوف، فإن كلا منهما سيأخذ الحزب والبلد في مسار مختلف عن الآخر في حالة فوزه. وإذا كان جونسون هو المرشح المفضل لأعضاء حزب المحافظين المائة ألف، فإن جوف لا شك هو المرشح المفضل لمؤسسة الحزب. لكن سباق خلافة ماي لن يقتصر علي «قيصر» و«بروتوس»، بل علي قادمين جدد، بعضهم أكثر اعتدالاً وبعضهم متشدد حتي أكثر من جوف وجونسون، لكنهم غير معروفين علي نطاق واسع في الشارع البريطاني أو علي المسرح الأوروبي، وانتخابات خلافة ماي ستكون فرصتهم لتعريف أنفسهم في شارع سياسي بريطاني متشكك، فقد الثقة في كل الطبقة السياسية، وتمتلكه حالة من الذهول غير مصدق لما يجري . حفلة الزعامة ستكون عامرة بالمدعوين إذن. ووفقاً لاستطلاعات الرأي، فإن جونسون هو الأكثر حظوظاً، يليه وزير البريكست السابق دومينيك راب وهو الآخر من أنصار البريكست الخشن، يليه جوف البرجماتي الملم بأدق تفاصيل الحزب، ثم وزير الخارجية جيرمي هانت، المليونير رجل الأعمال الذي تحول لسياسي توافقي، والزعيمة السابقة للمحافظين في مجلس العموم أندريا ليدسوم «حبيبة قلب» الجناح المتشدد في الحزب، ووزير الصحة الشاب مات هانكوك أحد الوجوه المعتدلة الصاعدة داخل الحزب، ووزير الداخلية المرن ساجد جاويد، ووزيرة العمل والمعاشات السابقة أستر ماكفي الشابة الطموحة. لا شك أن ملامح معركة خلافة ماي قد وُضعت خلال ال72 الماضية، وهي لن تكون بين الشخصيات فقط، بل بين معسكرين داخل الحزب. المعسكر الأول، هو معسكر الخروج من دون اتفاق (جونسون، وراب، وليدسوم، وماكفي) والمعسكر الثاني هو الخروج باتفاق (جوف وهانت وهانكوك وستيورات). والدورة الأخيرة من التصويت في النصف الثاني من يوليو المقبل، ستكون بين المرشح المنتصر من كل من هذين المعسكرين المتضادين. لكن معضلة خليفة ماي سواء من المعسكر المتشدد أو المعتدل هي أن كل العوامل التي جعلت من ماي رئيسة وزراء سيئة ما زالت موجودة، وستجعل من يخلفها رئيس وزراء سيئا أيضاً، إلا إذا حدثت معجزة. فمن سيخلف ماي سيرث حزباً لا يتمتع بالغالبية في البرلمان، ويعتمد في تمرير تشريعاته علي «الحزب الديمقراطي الوحدوي» الإيرلندي. كما سيرث حزباً منقسماً بعمق حول السؤال الأوروبي، وبلداً منقسماً بشدة حول مستقبله، والاتحاد الأوروبي متشكك في بريطانيا لا يريد تقديم أي تنازلات إضافية أو تمديد فترة الغموض الحالية. بإختصار إذا كانت ماي قد ورثت عبئا سياسيا ثقيلا، فإن من سيخلفها يرث عبئا سياسيا أثقل. فمع إعلان المفوضية الأوروبية أنه لا مفاوضات جديدة حول اتفاقية الانسحاب، سيكون علي رئيس الوزراء الجديد محاولة تمرير الاتفاقية الحالية في البرلمان البريطاني، أو المقامرة بالخروج من دون صفقة، أو الدعوة لاستفتاء ثان، أو إجراء انتخابات عامة مبكرة. وكل هذه الخيارات معقدة جداً، فتمرير الاتفاقية بالصيغة الحالية شبه مستحيل في البرلمان، والمزاج العام لم يتحول بعد بشكل حاسم لمصلحة إجراء استفتاء شعبي ثان، والانتخابات المبكرة ستأتي علي الأرجح ببرلمان معلق آخر، حيث لا يتمتع أي من الحزبين الكبيرين، العمال والمحافظين، بالأغلبية ما يعني حكومة أقلية «مقيدة اليدين»، وبالتالي صعوبة تمرير أي شىء في البرلمان. بعبارة اخري، وكما قال اللورد مايكل هيزلتين، النائب السابق لمارجريت تاتشر والعضو البارز في حزب المحافظين، فإن بريطانيا قد تصبح «مستعصية علي الحكم» خلال الأشهر المقبلة. ولن يشعر أحد في الاتحاد الأوروبي بالتعاطف مع بريطانيا أو طبقتها السياسية، فقد تحولت لمصدر سخرية عالمية. وإذا كانت ماي بعنادها وتصميمها وجولاتها المكوكية المرهقة بين لندن وبروكسل قد نالت «احترام» أوروبا خلال الأعوام الثلاثة الماضية، فإنه خليفتها قد لا يجد نفس الاحترام، فيما باب البريكست يقود البلد نحو المجهول.