فى حديثنا عن رواية «عنكبوت فى القلب» للشاعر محمد أبو زيد, توقفنا فى نهاية المقالة السابقة عند غرابة أطوار شخصية المحبوبة وكيف كان من سوء طالع العاشق بيبو أن يقع فى هواها.. فالبنت التى تهوى تربية العناكب غرست فى قلب عاشقها عنكبوتاً ساماً هو الحب. هذا التشبيه أو الاستعارة التى أعطت الرواية عنوانها, تعكس منذ البداية المزاج الفنى للعمل: وهو الرؤية والصياغة السيريالية لحالة الحب من طرف واحد. فإضافة لما أوردناه فى المقالة السابقة من صياغات وشخصيات تم تجسيدها بأسلوب يذكرنا برسوم سلفادور دالى الغرائبية وتكعيبية بيكاسو, هناك أيضاً سيارة الفصل الرابع والأخير التى تنطلق بقوة دفع ذاتية حاملة بيبو وعالمه الأثير بين عوالم خارجية يختلط فيها الواقع بالخيال, والحى الشعبى بالصحراء والثلج والبحور والجبال, وقد فقد راكبها أى قدرة على إيقافها أو توجيهها فكأنها هى التى تقوده؛ فى إشارة مجازية إلى قلب العاشق. نفس القلب الذى رأيناه فى الفصل الأول موضوعاً فى كرتونة فى شرفة بيبو وبجواره بعض الماء والحَب, كأنه طير عليل مجذوذ الجناحين. والرواية كلها مكتوبة بنفس الروح ونفس المنهاج الذى يُلغى الحاجز الفاصل بين الواقع اليومى العادى والواقع الحواديتى الأسطورى الذى يمكن خلاله أن تطير الشخصية الروائية العادية الواقعية فى أى لحظة حتى تختفى فى ملكوت الزرقة, بنفس البساطة والبدهية التى تشرب بها شاى الصباح أو تركب الميكروباص وتأكل ساندوتش الفول. وهنا قد تزدحم التصنيفات والنعوت النقدية: كالسيريالية أو الواقعية السحرية وما شابه من مصطلحات النقد. لكنى أرى أدق وصف لهذا العمل أنه الرواية حين يكتبها شاعر, وقصيدة الحب حين يحولها كاتب للشعر ذو خيال روائىّ إلى عمل معمارىّ مُركَّب يختلط فيه ويمتزج الواقع بالمجاز كما يحدث دائماً فى الشعر. فإذا أردنا تكثيف هذا الوصف فى كبسولة مصطلح نقدى يمكننا ان نسمى هذا النوع من الكتابة بالواقعية الشعرية. هنا يجلس علاء الدين صاحب المصباح على مقهى كل يوم, ويسقط الحائط الفاصل بين أنواع الكتابة الأدبية, فى استمرار لما يحدث بشكل متصاعد منذ تسعينيات القرن الماضى. فمحمد أبو زيد كاتب قصيدة النثر, وغيره آخرون, ينتقل بسلاسة من النثر الشعرى, الذى اقترب من القصة واقتربت منه فى ربع القرن الأخير, إلى الرواية: الشكل الذى صار الوعاء والبوتقة التى تنصهر فيها صنوف وأفانين الخيال الأدبى فى نزوع متصاعد نحو التركيب من ناحية, والإغراب والعجائبية من ناحية أخرى, تعبيراً عن واقع عالمى سقطت فيه الحواجز, واشتبكت وتعقدت الخيوط, وصارت الرؤية الأحادية البسيطة عاجزة قاصرة, وأتاحت لنا الإذاعة على الهواء مباشرة أن نرصد العجب اليومىّ ممتزجاً بالبدهى المعتاد. كل هذا جعل الرواية الشكل الأقدر على التعبير عن واقعنا العجائبى المعقد, الموحد حتى وهو شَتَّى, فصارت الرواية هى الأم الحاضنة للأجنة المجنونة التى تتشكل تحت أبصارنا كل يوم, أو فى خيال أدبائنا الراصدين لما يحدث أمام عيوننا. وكان من الطبيعى, خاصة فى كتابات أدباء منطقتنا العربية, أن تنتصر السريالية وتصعد وتتصاعد, حتى فى موضوع رومانسى غنائى كحالة الحب من طرف واحد التى يرسمها لنا الشاعر الروائى محمد أبو زيد, ويحل التركيب محل الرصد والسرد البسيط. وقد استطاع أبو زيد بموهبة نادرة, أن يقدم لنا فجيعة هذا النوع من الحب بخفة ظل وخيال لطيف طريف ورهيف, وأن يحتفظ بمسافة نفسية عاطفية, كما يجدر بروائى, تفصله عن الأحداث التى تحرقه كشاعر, ليتحلى بموضوعية تعصمه من السقوط فى الميلودراما والعاطفية المفرطة, فقدم لنا عملاً ممتعاً, نرى فيه النار البرتقالية تتوهج فى كفينا دون أن تحرق راحتنا وأصابعنا. لمزيد من مقالات بهاء جاهين