مؤتمر حاشد لدعم مرشحي القائمة الوطنية في انتخابات النواب بالقنطرة غرب الإسماعيلية (صور)    صاحبها طلع جدع، سعد الصغير يعلن انتهاء أزمة عربية إسماعيل الليثي (فيديو)    نرمين الفقي: أحرص على دعم المهرجانات المصرية.. وأتمنى المشاركة في الأعمال الاستعراضية والغنائية    بعد 43 يوما عجافا، الكونجرس الأمريكي يقر مشروع قانون لإنهاء الإغلاق الحكومي    مجلس النواب الأمريكي ينهي أطول إغلاق حكومي في التاريخ    استخراج الشهادات بالمحافظات.. تسهيلات «التجنيد والتعبئة» تربط أصحاب الهمم بالوطن    فائدة تصل ل 21.25%.. تفاصيل أعلى شهادات البنك الأهلي المصري    الولايات المتحدة تُنهي سك عملة "السنت" رسميًا بعد أكثر من قرنين من التداول    حبس المتهمين بسرقة معدات تصوير من شركة في عابدين    نجم الزمالك السابق: «لو مكان مرتجي هقول ل زيزو عيب».. وأيمن عبدالعزيز يرد: «ميقدرش يعمل كده»    قانون يكرّس الدولة البوليسية .."الإجراءات الجنائية": تقنين القمع باسم العدالة وبدائل شكلية للحبس الاحتياطي    من «رأس الحكمة» إلى «علم الروم».. مصر قبلة الاستثمار    حبس المتهم بقتل زوجته فى المنوفية بسبب خلافات زوجية    مؤتمر المناخ COP30.. العالم يجتمع في قلب «الأمازون» لإنقاذ كوكب الأرض    احسب إجازاتك.. تعرف على موعد العطلات الدينية والرسمية في 2026    «لو أنت ذكي ولمّاح».. اعثر على الشبح في 6 ثوانِ    التفاف على توصيات الأمم المتحدة .. السيسي يصدّق على قانون الإجراءات الجنائية الجديد    أبوريدة: متفائل بمنتخب مصر فى أمم أفريقيا والوقت لا يسمح بوديات بعد نيجيريا    القيادة المركزية الأمريكية: نفذنا 22 عملية أمنية ضد "داعش" طوال الشهر الماضي    إعلام: زيلينسكي وأجهزة مكافحة الفساد الأوكرانية على شفا الحرب    بعد ظهور السلوكيات المرفوضة فى المتحف الكبير.. كيف تحمى دول العالم متاحفها؟    نقابة الموسيقيين تنفى إقامة عزاء للمطرب الراحل إسماعيل الليثى    بتروجت: اتفاق ثلاثي مع الزمالك وحمدان لانتقاله في يناير ولكن.. وحقيقة عرض الأهلي    الإنتاج الحربي يلتقي أسوان في الجولة ال 12 بدوري المحترفين    انطلاق معسكر فيفا لحكام الدوري الممتاز بمشروع الهدف 15 نوفمبر    فرصة مميزة للمعلمين 2025.. التقديم الآن علي اعتماد المراكز التدريبية لدى الأكاديمية المهنية    المستشار بنداري: أشكر وسائل الإعلام على صدق تغطية انتخابات نواب 2025    عماد الدين حسين: إقبال كبير في دوائر المرشحين البارزين    سحب منخفضة ومتوسطة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الخميس 13 نوفمبر 2025    بدء نوة المكنسة بالإسكندرية.. أمطار متوسطة ورعدية تضرب عدة مناطق    قرارات جديدة بشأن مصرع وإصابة 7 في حادث منشأة القناطر    مرور الإسكندرية يواصل حملاته لضبط المخالفات بجميع أنحاء المحافظة    قفزة في سعر الذهب اليوم.. وعيار 21 الآن في السودان ببداية تعاملات الخميس 13 نوفمبر 2025    الاحتلال الإسرائيلي يشن سلسلة اقتحامات وعمليات نسف في الضفة الغربية وقطاع غزة    واشنطن تدعو لتحرك دولي عاجل لوقف إمدادات السلاح لقوات الدعم السريع    وزير المالية السابق: 2026 سيكون عام شعور المواطن باستقرار الأسعار والانخفاض التدريجي    وزير الإسكان: بدء التسجيل عبر منصة "مصر العقارية" لطرح 25 ألف وحدة سكنية    محمد صبحي يطالب أدمن صفحته بإحياء ذكرى زواجه ال52    فيفي عبده تبارك ل مي عز الدين زواجها.. والأخيرة ترد: «الله يبارك فيكي يا ماما»    يقضي على ذاكرتك.. أهم أضرار استخدام الشاشات لفترات طويلة    عقار تجريبي جديد من نوفارتيس يُظهر فعالية واعدة ضد الملاريا    طريقة عمل فتة الحمص بالزبادي والثوم، أكلة شامية سهلة وسريعة    إذا قالت صدقت.. كيف تتمسك مصر بملفات أمنها القومي وحماية استقرار المنطقة؟.. من سرت والجفرة خط أحمر إلى إفشال محاولات تفكيك السودان وتهجير أهالي غزة .. دور القاهرة حاسم في ضبط التوازنات الإقليمية    النيابة العامة تخصص جزء من رسوم خدماتها الرقمية لصالح مستشفى سرطان الأطفال    خبير لوائح: قرارات لجنة الانضباط «تهريج».. ولا يوجد نص يعاقب زيزو    تأكيد لليوم السابع.. اتحاد الكرة يعلن حرية انتقال اللاعبين الهواة بدون قيود    «يتميز بالانضباط التكتيكي».. نجم الأهلي السابق يتغنى ب طاهر محمد طاهر    محمود فوزي ل"من مصر": قانون الإجراءات الجنائية زوّد بدائل الحبس الاحتياطي    حيثيات حبس البلوجر «سوزي الأردنية»: «الحرية لا تعني الانفلات»    ممثل المجموعة العربية بصندوق النقد الدولي: مصر لا تحتاج لتحريك سعر الوقود لمدة عام    إسرائيل تُفرج عن 4 أسرى فلسطينيين من غزة بعد عامين    قد يؤدي إلى العمى.. أعراض وأسباب التراكوما بعد القضاء على المرض في مصر    مقرمش جدا من بره.. أفضل طريقة لقلي السمك بدون نقطة زيت    قصر صلاة الظهر مع الفجر أثناء السفر؟.. أمين الفتوى يجيب    رئيس الإدارة المركزية لمنطقة شمال سيناء يتفقد مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن الكريم بالعريش    انطلاق اختبارات «مدرسة التلاوة المصرية» بالأزهر لاكتشاف جيل جديد من قراء القرآن    «لو الطلاق بائن».. «من حقك تعرف» هل يحق للرجل إرث زوجته حال وفاتها في فترة العدة؟    دعاء الفجر | اللهم ارزق كل مهموم بالفرج واشفِ مرضانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحوار الصحفي الوحيد مع فؤاد ملكا
نشر في الأهرام اليومي يوم 15 - 09 - 2012

هل عمركم قرأتم حوارا صحفيا مع أحد ملوك مصر؟‏!..‏ أشك في ذلك وأسارع بتقديمه مع التعريف البديهي بأن مصر في العصر الحديث لم يحكمها سوي ملكين فقط هما الملك أحمد فؤاد وابنه فاروق‏. ومن بعدهما حكمها خمسة رؤساء: محمد نجيب وعبدالناصر والسادات وحسني مبارك ومحمد مرسي.. وكل من هؤلاء الخمس أدلي للصحافة بأحاديث وأحاديث, بعضها مفتوح علي البحري الثوري الديمقراطي الاشتراكي الانفتاحي التقدمي والبعض منغلق مختنق مرتبك بفعل فاعل أمني حزبي جماعي.. الحوار الصحفي الوحيد كان مع الملك فؤاد في16 يونيه1930 وأجراه الصحفي الألماني إميل لودفيج الذي كتب في مقدمته نبذة عن تاريخ فؤاد تضم مرسوما من المعتمد البريطاني ريجنالد وينجيت في19 أكتوبر1917 يمنحه عرش مصر من بعد السلطان حسين كامل الذي توفي فجأة بعد ولاية قصيرة, وذلك من بعد خلع الخديو عباس حلمي الثاني وهو يصطاف في اسطنبول وإعلان الحماية علي مصر عند إعلان الحرب العالمية الأولي, وكان ابنه ووريثه الأمير كمال الدين حسين قد اعتذر عن تولي الحكم, وبذلك انتقل العرش إلي عمه الأمير أحمد فؤاد الذي حكم مصر علي مدي تسعة عشر عاما توالت خلالها أحداث الحرب العالمية والثورة ثم الثورة المضادة.
وتخليدا للحدث السعيد فقد أشرف فؤاد بنفسه علي تنظيم مراسم الاحتفال بتوليه العرش, وذلك بأن اصطفت أورط من الجيش البريطاني وموسيقاه في طريق موكبه السامي علي الجانبين من شارع قصر النيل إلي شارع المناخ, فميدان الأوبرا فشارع عابدين شاهرة أسلحتها مؤدية التحية العسكرية الواجبة, وحينما وصل موكب عظمته إلي قصر عابدين قام بتحيته علي المدخل الخارجي بلوك من الجيش البريطاني تصحبه موسيقاه, ودوت في الأرجاء21 طلقة مدفع, وفي الرابعة من بعد ظهر نفس اليوم قام عظمة السلطان الجديد بأول زيارة سلطانية له, فخرج علي صدر موكبه المبجل إلي دار الحماية البريطانية وزار السير ريجنالدوينجيت والليدي وينجيت قرينته وتناول الشاي معهما في أجواء وصفها السفرجية والخدم بأنها كانت حميمية.. وكان أول مرسوم أصدره السلطان فؤاد يقضي بإعفاء كل من يتطوع في خدمة الجيوش البريطانية من الخدمة العسكرية المصرية, كما أمر فخامته بحل جذري للمشكلة المعلقة بشأن التبن اللازم لوجبات دواب الحرب فورا, وكان المطلوب منه ثلاثمئة وخمسين ألف حمل تبن تم تسليمها للسلطة الإنجليزية بالسعر الذي حددته, وصدرت الأوامر السلطانية بإخلاء جميع المدارس الأميرية وتجنيبها إلي الضواحي بتلاميذها ومدرسيها لتتحول مبانيها إلي مستشفيات عسكرية لعلاج جرحي الفرق الإنجليزية المحاربة.. وأذاعت شركة رويتر إخبارية وردت من لندن تقول إن الحكومة البريطانية قد تنازلت وقبلت مع الشكر تبرع الحكومة المصرية العاجل بثلاثة ملايين جنيه من نفقات الحرب, مع تعهدها بتقديم نصف مليون جنيه آخر من ميزانية السنة المالية الحالية لنفس الغرض..
وبعد أقل من عامين من توليه عرش مصر قرر فؤاد استكمال نصف دينه بالزواج في24 من مايو1919 من نازلي ابنة عبدالرحيم باشا صبري وزير الزراعة وقتها, وهو الزواج الثاني للسلطان, فقد كان زواجه الأول من أميرة واسعة الثراء شويكار والذي انتهي بمأساة دامية عندما طلقها لينتقم لها شقيقها بأن حاول قتله بإطلاق الرصاص, ولكن السلطان نجا بعدما أصيب بعاهة مستديمة في حلقه أثرت علي قدرته علي الكلام, وأودع الشقيق في مصحة عقلية بدلا من محاكمته.. وبعد تسعة أشهر وقيل سبعة من زواج فؤاد بنازلي أنجبت له فاروق وليا للعهد في11 فبراير1920 لتدوي21 طلقة مدفع في القاهرة والإسكندرية, ويمنح جميع موظفي الدولة والبنوك والبورصة إجازة في ذلك اليوم ويتم العفو عن بعض المساجين, وتوزع الصدقات السلطانية علي الفقراء والمحتاجين, ويرفع المندوب السامي البريطاني اللنبي إلي السلطان فؤاد اعتراف حكومته بولي العهد الأمير فاروق ونسله من الذكور علي قاعدة الأكبر من الأولاد فالأكبر من أولاده وهكذا.. وهي التي عاد بمقتضاها لقب ملك مصر الذي تواري عشرين قرنا.. وعندما بلغ فاروق سن الرابعة عشرة منحه الأب الملك لقب أمير الصعيد.
ويكتب الصحفي لودفيج في مستهل حواره مع الملك فؤاد بنظرة ألمانية تجاه أحداث ذلك العهد: إن النحاس باشا رئيس حزب الوفد المصري ورئيس الوزراء وخليفة سعد زغلول في التفاف الشعب حوله وتقديره لشخصه زعيم في الخمسين من عمره, يبدو لمحدثه بصوته الجهوري الرنان وعينيه شديدتي الملاحظة رغم إصابته بالحول مع مظاهر القوة البادية عليه أنه رجل حزم وثبات وتعقل, ومما يلاحظ عليه كما هو الحال مع رؤساء الأحزاب العظيمة أن الفساد يقف بعيدا عن بابه, وليس بين ألد خصومه من يجرؤ علي اتهامه بأي من الصفات أو التهم التي قد تسيئ إليه, والنحاس شديد الثقة بأبناء وطنه, وهو قوي الإيمان بنفسه وبحزبه, ويبدو وكأنه أقل عداء للإنجليز من بين زملائه, أو لنقول إنه أكثر تهذيبا ورقيا في تعامله معهم.. أما وزير الخارجية واصف بطرس غالي فهو في الواقع فيلسوف وأديب وشاعر وتبدو علي وجهه سيماء الخيال الرومانسي الشرقي, وأذكر بهذه المناسبة أنه الوزير الوحيد الذي عرفت حرصه البالغ علي القدوم إلي مكتبه قبل التاسعة صباحا مما يخلق في أجواء وزارته مناخا منضبطا لا يجاريه سير النظام في الوزارات الأخري.. أما وزير الأشغال عثمان محرم فهو صاحب خبرة حقيقية, ورجل أعمال أكثر منه رجل سياسة, وهو نشيط ملتهب غيرة وحماسة وتأججا, ورأسه ممتلئ بالمشروعات خاصة المتعلقة بمياه النيل التي تمثل في قوله الدائم الثروة الحقيقية في أرض بلاده بمفهوم قول هيرودوت إن مصر هبة النيل... علي أن أكثر الجميع تأثيرآ في نفسي كان وزير المالية الجديد مكرم عبيد وهو رجل في الأربعين ذا مظهر وأخلاق أوروبية, وكان مثل غالبية زملائه قد حكم عليه بالإعدام ثم نفي إلي سيشل الجزيرة الموحشة في البحر الأحمر مع سعد زغلول والنحاس.. ومكرم مسيحي الديانة علي أنه بدل باسمه الإنجليزي اسما عربيا رغبة منه في ألا يشي في أي من مظهره أو مخبره عن شيء إنجليزي.. وقد وجدت أن الوزراء في مصر كما في روما وأنقرة يمثلون شخصيات زعماء الحزب الحاكم الذين يصنعون مع رئيسهم قوة ضاربة في البلاد, لها الكلمة الأولي والأخيرة..
علي أن الفرق بين القادة والمحكومين ادعي للدهشة في مصر منه في أنقرة, فالدين في مصر لم يلغ إلغاء فعليا كما وقع في تركيا بأوامر من أتاتورك, بل الأمر بالعكس فالدين مؤيد ومصون لأنه يوحد بين فئات الشعب المتباينة تباينا كبيرا, وذلك لما يرفعه الدين من لواء التسامح التام بحيث إن الانتماء إلي أي مذهب لا ينقص من تمتع الشخص بجميع المنافع والمزايا, ولعل أكبر دليل علي ذلك أن اثنين من أكثر مقاعد الوزارة أهمية وشأنا يشغلهما مسيحيان مع أن المسيحيين في مصر يعدون مليونا واحدا مقابل11 مليونا ونصف المليون من المسلمين.. أضف إلي ذلك أن تجاهل الأديان في بلد مثل مصر المسلمة يؤدي إلي عواقب اجتماعية وخيمة للغاية, لأن شريعة الإرث الإسلامية تقسم أملاك كل فرد عند وفاته بين أبنائه, ولما كان المؤمنون المتدينون يريدون أن يفاخروا الأمم بكثرة نسلهم, فمعني ذلك أن الأراضي تقسم أقساما صغيرة بين عدد كبير من الملاك ومعظمهم فقراء ولكنهم في تدرج فقرهم الطبقي علي نفس المستوي الاجتماعي, ومع أن معظم الشباب شديدو الإعجاب بمصطفي كمال أتاتورك وأعماله إلا أن الشيوخ يحذرونهم من الطفرة والبدع التي أمر أتاتورك بمزاولتها, والملاحظ أن عددا قليلا للغاية من الرجال المصريين الذين أبدلوا بالطربوش القبعة, كما أن قليلات جدا من نساء الطبقة الراقية من يجرأن علي الخروج بدون حجاب.. ومن بين الذين يعارضون الطفرة والتطور السريع جلالة الملك فؤاد نفسه.... ويلحظ المحاور الألماني إميل لودفيج ويدون في فاتحة انفراده الصحفي أن قاعة العرش التي التقي الملك فيها كانت مزينة بالنقوش والرسوم والأحاديث النبوية الشريفة والحكم المأثورة.. فنجد في صدر القاعة بقصر عابدين وعلي يمين كرسي العرش قول القرآن الكريم بالخط الثلث الجميل الآية القرآنية رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلي والدي وعلي يساره رب اجعل هذا البلد آمنا.. وفيما كتب علي الجدران من حكم: حق علي من قلده الله أزمة حكمه, وملكه أمور خلقه, واختصه بجميل إحسانه.. ومكن له عظيم سلطانه.. أن يكون من الاهتمام بمصالح رعيته, والاعتناء بمرافق أهل طاعته.. بحيث وضعه الله من الكرامة وأجري عليه من أسباب النعمة والسعادة..
ويتطرق كلام لودفيج عن الحال في مصر سنة30 إلي الملك فؤاد نفسه ليقول عنه: الملك فؤاد مثال للملك الشعبي, ولا ريب أن أفضل تربية للرجل الذي لم يكن ينتظر أن يصير ملكا هي التربية القاسية التي تصهره, وتزج به في مجتمعات وأوساط يصعب علي أي ولي عهد في أية دولة كانت أن يصل إليها أو أن يختلط بها, ومن هنا كتب لهذا الملك أن يخوض تلك التجربة ليخرج منها مدعوما بالكفاءة التي تخوله للحكم عن خبرة وتجربة وتعقل ورؤية شاملة.. يحدثه جلالة الملك فؤاد قائلا: لقد عرفت جميع أنواع الناس من الأمراء إلي العمال إلي سائقي المركبات إلي فلاحي الحقول, ومن أفراد الجنود إلي كبار القواد, وعرفت الفقر, واختبرت محنا كثيرة وتطورات ضخمة مما يتعرض لها بنو البشر, وزرت جميع بلدان أوروبا ماعدا روسيا, وكافحت بنفسي في كل مكان, وسقطت سطور عرقي من الحر اللافح في الصحراوات, واقشعر بدني من قسوة الثلوج عندما تلفح الجسد شبه العاري, وكان لابد لي من ذلك كله فقد كنت فردا عاديا لا أترقب في يوم من الأيام اعتلاء العرش.
ويقترب لودفيج من فؤاد أكثر وأكثر قائلا: يتكلم جلالة الملك بمنتهي البساطة خاصة عندما يريد أن يعبر عن أفكاره باللغة الإيطالية لأنه كان زمنا طويلا ضابطا في الجيش الإيطالي, وهو يتجنب الرسميات ورغم ذلك يولي عناية تامة بها كما تيسر لي أن أختبره في إحدي نقاط حديثنا وذلك بأن يظل محدثه محافظا عليها متقيدا بها ولا يتناساها, أي أن تظل هناك المسافة قائمة لا يتجاوز فيها المحدث حدوده مدركا تماما أنه في حضرة ملك جالس علي عرش النيل.. وجلالته في الثانية والستين من العمر, ولكن مظهره دون ذلك بعشر سنين, وكل ما يحيط به في قصره الفخم وأثاثه الفاخر من طراز لويس الخامس عشر وسلالمه الرخامية الواسعة وأنواع السجاد الفاخر الذي يغطي الأرضيات والثريات المتعانقة بحبات الكريستال والمورانو كلها صممت للتأثير في نفوس الآخرين, لكنها جميعها خارج اهتمام صاحبها الذي لا يكاد الزائر يذكر عظم مقامه لولا التاج الصغير الذي يتوج المحبرة الموضوعة علي مكتبه, ومن خلال حديثه يظهر واسع الاطلاع وكثيرا ما تتخلل أحاديثه مأثورات من الأدب الإنجليزي وترديدات من أقوال السياسيين الفرنسيين.. وقد قال لي في حديثه: إني مدرك تماما مخاطر التعليم المؤدي إلي التعالي والغرور الذي يلقن عادة للأمراء, أما أنا فقد اختلطت بجميع الطبقات ولم أمض حياتي بطولها في البلاط والصالونات العصرية المتأنقة, وقد عاشرت رجالا من جميع الأجناس والمشارب في كافة أنحاء أوروبا, وكنت جنديا وطالبا ودرست شئون التجارة والسياسة وفي استطاعتي الخروج بنظرياتي الخاصة ولا أدع أحدا يملي علي إرادته في منصبي الحالي.. إن الأساليب التي كانت تتخذ في تربية الأمراء وتعليمهم هي التي أوجدت ذلك الانحطاط في الأسر المالكة, كما أصاب آل هابسبرج مثلا الذين هبطوا إلي الحضيض, إن معرفة الناس واختبارهم بمثابة مدرسة الصقل وتنمية المدارك.. ومن حاز تلك المعرفة يعرف كيف يحكم الناس ويقودهم.
قال جلالته ذلك ثم عمد إلي تغيير الحديث ليجتذب أسئلة أخري ألقيها عليه.. أما أنا فتجاسرت لأسأل قائلا: مادمت جلالتكم من المعجبين كل هذا الإعجاب ببسمارك كما يبدو لي فلا ريب أن ديكتاتورية أيامنا هذه حائزة علي إعجابك أيضا؟! فأجابني علي الفور: إني من أشد المقاومين للنظام الديكتاتوري ويسرني كثيرا أن الديكتاتورية هنا قد زالت تماما.. إن مصر لا يمكن أن تحكم إلا تحت سيطرة البرلمان..
والرقابة الإنجليزية يا جلالة الملك!!
- إنها أقل كثيرا الآن مما كانت وستنتهي تماما.. إن شعبا عدده14 مليونا يجب أن يكون مستقلا.. هل تعلم أن أبي الخديو إسماعيل كان ينوي أن يعلن استقلال مصر في الوليمة الكبري التي أقامها بمناسبة حفل افتتاح قناة السويس والتي دعيت إليها أوجيني..
فدهشت من قول جلالته هذا لأني لم أكن قد رأيت أي ذكر لهذا الأمر فيما قرأته في جميع المطبوعات الخاصة بمصر والقناة, فسألت جلالته عن مصدر الخبر فقال لي: إنه حقيقة معروفة في عائلتنا يتناقلها الخلف عن السلف وإني أسعي للبحث في الأوراق الرسمية الإيطالية التي تحتوي علي بيان المفاوضات التي جرت بشأن ذلك, ويظهر أن إحدي الدول الكبري وقفت في آخر لحظة في وجه تحقيق تلك الأمنية, والآن قد وصلنا بعد خمسين سنة إلي نقطة أحق أن يتيسر لنا فيها عقد معاهدة مع انجلترا تكون لفائدة الفريقين, فيكون لهم ما يريدونه في القناة ويكون لنا حكم البلاد.. ليس باستطاعتنا أن يكون لنا جيش خاص بعد.. وأنا نفسي يندر أن أرتدي الملابس العسكرية مع أني كنت جنديا, حيث تخرجت في كلية تورنتو الحربية العليا برتبة ملازم ثان لسلاح المدفعية وانضممت في عام1888 إلي فريق المدفعية الثالث عشر بروما, حيث أمضيت ثلاث سنوات اكتسبت خلالها خبرات حربية كبيرة, وعلي ذكر الملابس العسكرية أقول إني قد لاحظت بأني أفكر في الأشياء تفكيرا مختلفا عندما أكون مرتديا لها.. وعموما كل فرد من الشعب له أن يفكر كما يشاء في أصحاب الزي العسكري عندما يتولون مقاليد الأمور أو ينحون عنها!!
هل من الصعب العثور علي مستشارين صالحين؟
- تحت تصرفي أكثر من خمسين رجلا لم يتول أحد منهم بعد المناصب الوزارية ولكنهم يعدون تدريجيا لها.. إن لدينا في مصر عقولا جبارة وكل ما علينا هو الانتفاع بها.
وما النسبة التي لديكم من مثل هذه العقول والتي أظهرت لدولتكم كفاءتها اللازمة للمناصب؟
فضحك جلالته قائلا: لقد نسيت النسبة المئوية, ولكن صدقني أن الرجل دمث الخلق ليس دائما أهلا لتولي الوزارة.. إن رجلا كهذا يكون عرضة للكسر عند الأزمات, والاستسلام لليأس إذا ما واجهته المحن الكبري.
بعدها انتقل جلالته للتحدث عن الجهود التي تبذل لجمع الوثائق من كافة دور المحفوظات في أوروبا التي لها علاقة بتاريخ عائلته, وذلك بقصد وضع تاريخ لمصر في القرن التاسع عشر بمساعدة السياسي الفرنسي جبرائيل هانونو, وقد دعا جلالة الملك فؤاد ممثلي فروع مختلفة مهتمة بالعلم والمعرفة لحضور مؤتمر دولي بالقاهرة بهدف أن يدرك العالم أن مصر العصرية موجودة وأنها غير مصر توت عنخ آمون وأبي الهول.. ولما ذكرت لجلالته أن هذا أمر معروف في أوروبا أجابني قائلا:
- تقول إن مصر معروفة في أوروبا؟! بالأمس يا سيدي فقط جاء أحد الأساتذة إلي مصر يحمل معه ست قطع من الصابون ورطلا من السكر لاعتقاده أنه قادم إلي صحراء جرداء..
ويسرد إميل لودفيج قصة صراع فؤاد والدستور عندما صدر الدستور للمرة الأولي في ابريل1923 ليراه الملك رقيبا عليه فيكرهه وينقم عليه خاصة عندما يتمسك سعد زغلول استنادا إلي نصوص الدستور بحق الحكومة في تعيين خمس أعضاء مجلس الشيوخ بينما يراه الملك من حقه هو, ويحتدم الخلاف الذي يحسمه الاحتكام إلي المستشار فان دن بوش النائب العام أمام المحاكم المختلطة في مصر باعتباره بلجيكيا, وباعتبار الدستور المصري مستمد أصلا من الدستور البلجيكي, وتأتي فتوي المستشار مؤيدة لوجهة نظر سعد إذ جاء فيها بالنص: إن مبدأ عدم مسئولية الملك يعتبر أساس هذا النظام الذي يقضي بأن الملك لا يتولي سلطته إلا بواسطة وزرائه, وهو مبدأ لا يحتمل أي استثناء من الوجهة القانونية, بل يمتد إلي جميع أعمال الملك, فإذا استثني عمل واحد, فإن هذا الاستثناء يصيب النظام الدستوري في روحه وأساسه, لذلك نري أن تعيين أعضاء مجلس الشيوخ يجب أن يكون بناء علي ما يعرضه مجلس الوزراء.. ونزل الملك فؤاد صاغرا علي فتوي البلجيكي, لكن مرارة الهزيمة ظلت في حلقه تملأ أعماقه تدفعه للتربص للدستور وللانتقام منه والاعتداء عليه, بالتعطيل المؤقت حينا, وبالإلغاء الكلي حينا آخر.. ولقد أقدم علي الخطوة التي لم تسبق في تاريخ الدساتير والنظم في أي مكان أو زمان فقرر أن يحل البرلمان المنتخب في نفس يوم انعقاده.. افتتح جلالته المجلس في الصباح وألقي خطاب العرش كما يقضي الدستور.. وفي الجلسة الأولي في المساء, دخل رئيس الوزراء ليتلو مرسوما ملكيا بحل المجلس الذي لم يدم أكثر من ثماني ساعات.. وظل الدستور معطلا من نوفمبر1924 حتي عام1926, وقام فؤاد مرة أخري بتعطيله في سنة1928 حتي أواخر1929, وفي المرة الثالثة في عام1930 قام الملك أحمد فؤاد بإلغاء دستور1923 كلية وأحل محله دستورا جديدا يعطي قيصر كل شيء ويحرم الشعب من كل شيء... هذا ولم يقدر للصحفي الألماني لودفيج في حواره المتفرد أن يتابع معركة فؤاد الأخيرة مع الدستور عندما وقع وهو علي فراش الموت مرسوما في ديسمبر1935 يقضي بإلغاء دستور1930 وآثاره وعودة دستور1923 ثانية!!!
ولكن.. لودفيج لم ينس بعيدا عن تاريخ الدستور المصري الواقع علي مدي العهود بين براثن الأهواء والأنواء والإقصاء أن يبدي عجبه وربما إعجابه بفؤاد ذاكرا في سطوره الأخيرة من الحوار أن الملك رغم ميله للشراب فإنه عندما يسافر إلي الخارج يصحب معه سمعة مصر.. اللفظة التي يرددها علي الدوام, فلا يتناول كأسآ واحدة علي انفراد أو في الضيافة حتي ولو طالت غيبته عن البلاد شهورا!!
المزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.