(ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين} لقمان6 من أوجه الإعجاز التشريعي في الآية الكريمة أنها تؤكد قيمة الوقت الذي يجب ألا ينفق إلا في تحقيق رسالة الإنسان في هذه الحياة, وهي رسالة ذات وجهين: أولهما عبادة الله تعالي بما أمر, وثانيهما حسن القيام بواجب الاستخلاف في الأرض بعمارتها وإقامة شرع الله وعدله في ربوعها. وعبادة الله تعالي بما أمر تشمل إقامة الصلوات الخمس علي وقتها, بالإضافة إلي كل من السنن والنوافل, وصوم شهر رمضان المبارك, بالإضافة إلي صوم التطوع والقضاء, والكفارات, وإخراج الزكاة والصدقات, وحج بيت الله واعتماره لمن استطاع إلي ذلك سبيلا. وأما حسن القيام بواجب الاستخلاف في الأرض فيستلزم التعلم واكتساب المهارات النظرية أو العملية التي تعين علي تحقيق ذلك. ثم السعي الحثيث علي الاستمرار في إصلاح أمور الأمة وتطويرها باستمرار, من التعليم إلي البحث العلمي, إلي كل من الإعلام, والاقتصاد, والإدارة, ومن الإصلاح السياسي إلي الاجتماعي والعسكري من أجل حماية حدود ومصالح الأمة. والذي ينشغل بشئ من ذلك لا يكاد يجد في وقته متسعا للهو البريء الذي أحله الإسلام العظيم بقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة, فإن القلوب إذا كلت عميت. أما( لهو الحديث) فهو تعبير عن كل فعل أو قول يصد عن طاعة الله واتباع سبيله, وذلك من أمثال اللهو الرخيص الذي قد يفني فيه الإنسان عمره المحدود, فيما يشغل القلب عن الطاعات, ويضيع الأوقات والجهود في الملذات المحرمة التي لا تعود بالخير أبدا علي الناس أفرادا ومجتمعات. ومن أسباب نزول هذه الآية الكريمة أن أحد أثرياء مشركي مكة, وكان اسمه النضر بن الحارث من بني عبد الدار كان يسافر في تجارة إلي بلاد فارس فيتلقي الأساطير المملوءة بالخيالات والأكاذيب, ثم يعود ليقصها علي أهل مكة في أسمارهم. و كان النضر هذا كذلك يشتري كتب أخبار ملوك الفرس فيحدث بها قريشا. كما كان يشتري القيان, ليلهي بهن أهل مكة عن الاستماع إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلي قيانه ليشغله عن التعرف علي دين الله. ولذلك قيل إن المقصود بالتعبير القرآني, ومن الناس من يشتري لهو الحديث...] أي: إن من الناس من يشتري توافه الأمور بماله, ووقته, وجهده, وهو لهو رخيص من مثل الاستماع إلي أو مشاهدة القينات, ويقابل ذلك اليوم الجلوس أمام شاشات التلفاز أو الحاسوب بالساعات الطوال بلا فائدة مرجوة. لذلك يروي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال: لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن, ولا خير في تجارة فيهن, وثمنهن حرام. ولكن النص أعم من ذلك وأشمل إن صح أنه وارد في حادثة النضر بن الحارث وهو يصور جانبا من الناس يهدرون أوقاتهم وأعمارهم فيما لا يفيد, والوقت هو الحياة. وفي قوله تعالي ,... ليضل عن سبيل الله بغير علم...] أي: ليضل هو, ويضل غيره عن دين الله الذي لا يرتضي من عباده دينا سواه بهذا اللهو الرخيص, بجهل فاضح وغفلة كاملة عن حقيقة رسالته في هذه الحياة. والإنسان الذي يفعل ذلك يضيع عمره هباء في غير الطريق الذي خلقه له الله, لمجرد حرصه علي مخالفة الإسلام وأهله. فلقد كان اللهو في حالة النضر بن الحارث غير مقصود لذاته, ولكن ليصرف من حوله عن دين الله, ويبقي الحكم مطلقا لعموم النص. وفي قوله تعالي ,... ويتخذها هزوا...] أي: ومن وقاحته وقلة حيائه, أن هذا الضال المشرك لا يخزي من شركه, بل يتطاول في ذلك باتخاذ سبيل الله هزوا, أي: يستهزئ بدين الله, ويسخر من آياته بشئ من سوء الأدب مع الله تعالي ومع سبل الدعوة إليه. وتختتم الآية الكريمة بقول ربنا تبارك وتعالي مهددا هؤلاء الكفار والمشركين ومتوعدا إياهم حيث يقول:,... أولئك لهم عذاب مهين] أي: كما استهان هؤلاء المشركون بدين الله وآياته في الدنيا فإنهم سوف يهانون في الآخرة بعذاب دائم ومستمر إلي ما لا نهاية لأن الآخرة خلود بلا موت, إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا. ولذلك قال رسول الله صلي الله عليه وسلم لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا, ولبكيتم كثيرا, وقال: لا تكثروا الضحك, فإن كثرة الضحك تميت القلب( ابن ماجة). وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: كنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم في جنازة فجلس علي شفير القبر, فبكي حتي بل الثري ثم قال: يا إخواني لمثل هذا فأعدوا( ابن ماجة). ووجه الإعجاز التشريعي في هذه الآية الكريمة يتلخص في تأكيد أن الوقت هو الحياة, فلا يجوز إهداره في اللهو الضار أبدا, وأن الإنسان له رسالة محددة في هذه الحياة, لا يجوز الخروج عليها أو الغفلة عن أدائها أبدا. وهذه الحقائق يهملها كثير من الناس حتي يفاجئهم الأجل وهم مثقلون بالتبعات, وأصفار الأيدي من الحسنات, فخسروا الدنيا والآخرة, وذلك هو الخسران المبين. وتنبيه الآية الكريمة إلي هذه الحقيقة يمثل وجه الإعجاز التشريعي فيها, فالحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي بعثة خير الأنام سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين من بني آدم صلي الله عليه وسلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين