لم يكن غريبا أن يستهل فلاديمير زيلينسكى الفنان الكوميدى الأوكراني، نشاطه كرئيس لبلاده بسلسلة من القرارات والتصريحات التى حرص على تقديمها فى قالب فكاهى مسرحى يجمع بين الجد والنقد الساخر، سرعان ما أعقبه فى ختام خطابه أمام البرلمان بقوله: «لقد كرست كل سنوات حياتى الماضية لرسم الابتسامة على شفاه الأوكرانيين، وأعدكم بأننى سوف أبذل قصارى جهدى خلال السنوات الخمس المقبلة بما لن يكون مدعاة لبكائكم». إلى ما يشبه العرض المسرحى قرر فلاديمير زيلينسكى تحويل حفل تنصيبه رئيسا لأوكرانيا، مستهلا نشاطه بحشد أنصاره ومؤيديه فى الساحات المجاورة لمقر البرلمان الاوكراني، ممن تابعوا خطابه عبر شاشات تليفزيونية عملاقة جرى نشرها فى كل أرجاء المكان. وحرص زيلينسكى على أن يستهل هذا الخطاب بالكثير من الإيحاءات التى تجمعه مع نظيره الأمريكى الأسبق رونالد ريجان الذى حقق لبلاده ما فاق كل توقعاتها. وقال إن فنانا أمريكيا سبق أن أعرب عن دهشته إزاء ما يقال حول «أن الحكومة تحل المشاكل»، نظرا لأن «الحكومة وفى حقيقة الأمر هى أُس المشاكل». واذا كان زيلينسكى حاول أن يتشبه بالرئيس ريجان الذى ولج إلى عالم السياسة من أبواب الفن، فإن الواقع يقول بالفارق الهائل بين الرئيسين الأمريكى والأوكراني، نظرا لأن ريجان تمرس فى الإدارة والحكم قبل توليه رئاسة الولاياتالمتحدة من خلال عمله محافظا لولاية كاليفورنيا لولايتين متتاليتين، فضلا عن رئاسته السابقة لنقابة الممثلين، إلى جانب خبراته التى حاول من خلالها الفوز برئاسة الولاياتالمتحدة مرتين، الأولى فى عام 1968 والثانية عام 1976 قبل أن يفوز فى عام 1980 على منافسه جيمى كارتر، بينما لا تتجاوز الخبرات العملية لزيلينسكى نشاطه السابق كفنان كوميدى ومنتج لبعض البرامج التليفزيونية ذات الطبيعة النقدية الساخرة، إلى جانب بعض النشاط التجارى المحدود. لكننا ورغم ذلك نشير إلى أن زيلينسكى خاض تجربة الإنتخابات وحقق فوزا ساحقا على غريمه المتمرس فى عالم المال والإدارة والأعمال والسياسة لعقود طويلة. وها نحن نراه وقد مضى إلى ما هو أبعد، متكئا على ما تراكم لديه من خبرات فنية، وإحساس عال بمشاعر ناخبيه، بأن استهل نشاطه كرئيس للدولة بإعلانه حل البرلمان، وإقالة رئيس جهاز الأمن الأوكرانى ووزير الدفاع، وكذلك النائب العام وبقية أعضاء الحكومة الأوكرانية لإفساح الطريق أمام من سوف يعمل من أجل أجيال المستقبل، وليس من أجل الانتخابات المقبلة، على حد تعبيره. وتعهد زيلينسكى بأولوية حل مشكلة منطقة الدونباس وإقرار السلام فى جنوب شرقى أوكرانيا وإعادة الأسرى الأوكرانيين، مؤكداً أن نفس الموقف ينطبق على شبه جزيرة القرم التى قال بأنه سوف يعمل على إعادتها إلى أوكرانيا، وأن ذلك سوف يشغل موقع الصدارة فى نشاطه المقبل حتى لو كلفه ذلك منصب رئيس الجمهورية. وفى هذا الصدد قال أيضا: «إننا لم نبدأ هذه الحرب، لكنه يجب علينا وضع حد لإنهائها، ونحن على استعداد للحوار. كما أننى على يقين من أن تكون عودة كل الأسرى الأوكرانيين بداية لهذا الحوار». لكن ماذا عن ردود الفعل من جانب موسكو ؟ سؤال نجد إجابته فيما نقلته وكالة أنباء «تاس» عن دميترى بيسكوف الناطق الرسمى بإسم الكرملين حول «أن القرم إقليم من أقاليم روسيا الإتحادية، وأنه لا وجود لمثل هذه المشكلة، ولا وجود لها فى المستقبل». أما عن إعادة الأسرى فقد سارع سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسية بإعلان ضرورة إعلاء مبدأ «جميع الأسرى مقابل كل الأسري». ولم تكتف موسكو بذلك حيث مضى الرئيس بوتين إلى ما هو أبعد بإتصاله الهاتفى مع كل من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ونظيره الفرنسى إيمانويل ماكرون، وليخلص ثلاثتهم إلى تأكيد «أنه لا بديل للخروج من المأزق الحالى عن مجموعة الإجراءات الخاصة بالأزمة الأوكرانية والتى تم التوصل إليها فى مينسك عام 2015، «باعتبارها أساسا للتسوية السلمية»، حسب البيان الصادر عن الكرملين بهذا الشأن. وقد تضمن بيان الكرملين أيضا ما توقف عنده بوتين فى حديثه مع كل من ميركل وماكرون حول «ضرورة التزام كييف بتنفيذ القانون الخاص بوضعية منطقتى دونيتسك ولوجانسك فى جنوب شرق أوكرانيا، وإعلان العفو العام، وإعادة القوات والمعدات العسكرية إلى المناطق التى تم تحديدها سابقا فى خط التماس بين الطرفين، بالإضافة إلى بدء الحوار المباشر بين كييف وكل من دونيتسك ولوجانسك. ولم يغفل الرئيس الروسى الإشارة إلى إصدار قانون ما يسمى دعم اللغة الأوكرانية الذى يعنى ضمنا النيل من مكانة اللغة الروسية ولغات الاقليات وهو ما يتناقض مع الدستور الأوكرانى واتفاقات مينسك والالتزامات الدولية لكييف، بشأن حماية الأقليات العرقية واللغوية. ما نشهده فى أوكرانيا يختلف جذريا فى كثير من جوانبه عن ذى قبل. وقد كشفت الانتخابات الرئاسية الاخيرة عن فشل ذريع للقيادة السياسية السابقة، وهو ما أكدته النتائج التى كشفت عن مدى تدنى شعبية الرئيس السابق بوروشينكو بنسبة اقتصرت على 23% من أصوات الناخبين، فى نفس الوقت الذى لا تتجاوز فيه نسبة شعبية البرلمان الأوكرانى نسبة 4% وهو ما حرص الرئيس زيلينسكى على تأكيده لدى لقاء جمعه مع رؤساء الكتل البرلمانية عقب تسلمه مهام منصبه . وذلك ما يفسر ما طالب به زيلينسكى نواب البرلمان من ضرورة إستصدار قانون يتناولون بموجبه عن الحصانة البرلمانية، إلى جانب أهمية قانون حظر الثراء غير المشروع. على أن هناك من يقول إن زيلينسكى الذى يستهل فترة حكمه بطرح الحوار سبيلا إلى حل قضية الدونباس وإنهاء الحرب، يبدو مدعوا إلى مراعاة ان ذلك يتطلب عدة أمور أهمها البدء بتنفيذ اتفاقيات مينسك الموقعة فى عام 2015 التى رفض سلفه بوروشينكو الالتزام بها، وهو ما يعنى ضمنا المفاوضات مع موسكو. وذلك يبدو على طرفى نقيض مما طرحه زيلينسكى فى لقائه مع الوفد الأمريكى الذى شارك فى مراسم تنصيبه، حول مناشدته واشنطن تشديد العقوبات ضد روسيا، فضلا عن تأكيداته السابقة حول إصراره على مواصلة المسيرة للانضمام إلى كل من الاتحاد الأوروبى والناتو. واذا كانت موسكو يمكن أن تغض الطرف عن محاولات التعاون مع الاتحاد الاوروبي، فان أحدا لا يستطيع أن يجزم بموافقتها على ظهور قوات الناتو فى اوكرانيا، بكل ما يعنى هذا الوجود العسكرى من تبعات وأخطار تهدد مصالح روسيا وحلفائها. وإضافة الى ذلك، ثمة من يشير الي ارتباط تطورات الموقف فى أوكرانيا، بالمواجهة المحتملة بين زيلينسكى وخصومه، إلى جانب احتمالات مقاومتهم لقرار حل البرلمان، فضلا عن بوادر تغير فى الموقف الأمريكى الذى يبدو أقل اندفاعا فى تأييد كييف فى نزاعها مع موسكو، فى توقيت نشهد فيه ملامح «انفراجة نسبية» بين الكرملين والادارة الأمريكية، أشارت إليها الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأمريكية لسوتشى ولقائه مع الرئيس بوتين، واحتمالات لقاء الزعيمين بوتين وترامب على هامش قمة العشرين فى اليابان، وهو ما قد يصدق معه القول :«إن غدا لناظره قريب!».