ثمانون بالمائة من شعب مصر اليوم ولد بعد أن مات نجيب الريحانى فى 8 يونيو عام 1949، وبعد 70 سنة لا يمر يوم لا نترحم فيه, شيوخا وشبانا, على عملاق المسرح المصرى الفكاهي، لمواقفه التى عبر عنها أو بالنجوم التى لمعت حوله أو بلزماته وفلسفة الضحك المولود من رحم المرارة الأقرب لطبيعة المصريين، وكلما شاهدنا الكثير من نجوم الكوميديا الآن الذين يضطرون لزغزغة المشاهد المتبلد من أساليبهم الجامدة تأكدنا أن الكوميديا تنحدر الى عصر الضحك من غير سبب! منذ أسبوع بدأت قراءة كتاب (نجيب الريحانى المذكرات المجهولة) وهو دراسة مهمة كتبها بقلمه المدقق شعبان يوسف، أهمية الدراسة ليست فى كشف التراب الذى أريد به تشويه جوهرة مصرية الذائقة الفنية والميلاد فى باب الشعرية لأب عراقي، ولكن من خلال دراسة مذكراته الأصلية والمذكرات الدخيلة على حياة الريحاني، ألقى الباحث الضوء على تاريخ مصر الفنى والإبداعى فى 100سنة، فرغم أفلام الريحانى القليلة فإن تلك الأفلام ظلت طاقة بهجة وفرجة آمنة من الإسفاف داخل كل بيت مصري، رغم محاولات التقليل من شأنه على المستوى الفنى والسياسى والوطني!. تنبع أهمية دراسة شعبان يوسف من شراسة الحرب التى خاضها سواء فى مواجهة هجوم كتاب كبار، مثل الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور الذى لخص الريحانى بأنه مجرد ممثل مضحك وأن مسرحه سينتهى برحيله، أو سعد الدين وهبة الذى اعتبره مضحك الحكام والمحتلين، لكن الخطر جاء من مذكرات مجهولة نشرت عام 1959 فى كتاب الهلال ووجدت رواجا كاسحا لأن من قدم لها بديع خيرى رفيق درب نجيب الريحاني، جال فيها محرر مجهول بوقائع مثيرة وسخيفة شديدة الهزلية نسبت للريحاني، وكشف شعبان يوسف عن السيرة الأصلية التى نشرتها دار مجهولة أشار اليها عميد النقد الأدبى الدكتور على الراعي، وكان البطل الحقيقى ليس فدائية شعبان يوسف وأسانيده التى تجعل «المنسيين ينهضون» ولاعشقه للسباحة فى المساحات المجهولة والملتبسة فى تاريخنا الثقافي، ولكن رسوخ قيمة نجيب الريحانى فى ضمير المشاهد المصرى والعربى الذى لا تحكمه عقد الجغرافيا ولا شهادات الميلاد!. فى المذكرات المجهولة يستظرف المحرر ويفتعل النكات السخيفة ويتعرض لموضوعات ثقافية لم يكن الريحانى معنيا بها فى حياته، وقوله: اذا بدا لى ان أظهر فى دور كوميدى فان السقوط حتما حليفي، وهو ما ينطوى على تحقير الذات ويتعارض من استمرار نجاحه على المستوى الكوميدي، كما سرد المحرر المجهول الكثير عن غراميات نجيب الريحانى التى يخوض فيها فى أعراض الفنانات منهن فاطمة رشدى والتى توحى بأن الريحانى رجل فلاتى ومغروس فى النذالة وهو ما يتعارض مع شخصيته ومعاملاته فى مذكراته الحقيقية!. ومن الأكاذيب التى نسبت للريحانى فى المذكرات المزعومة امتنانه للملك فاروق الذى كرمه وأثنى عليه، وهو ما يتعارض مع الواقع لأنها نشرت أيام الثورة ولم يرد فى المذكرات الأصلية أى إشارة إيجابية عن الملك فاروق فى ذلك الوقت، ورغم المعارك العديدة التى خاضها المحقق شعبان يوسف بالمنطق لإنصاف الريحانى الحقيقى من الريحانى المزيف، إلا ان ما لفت نظرى هو هجوم أديبنا الكبير يحيى حقى حين قال إن الريحانى ممثل هزلى عظيم تجلت فيه موهبة الحضور فلا يكاد يظهر على المسرح وقبل اى كلمة يستبد بالنظارة ويجذب قلوبهم ووجوههم وعيونهم ويزول عنهم الهم والغم ويتعالى الضحك والقهقهة بداية من شباك التذاكر، لكن هناك فرقا بين كونه ممثلا هزليا عظيما وبين القول إن فنه خالد وأنه فن مصرى خالص انبعث من قلب مصر فإن أصدق وصف للريحانى فى نظر يحيى حقى أنه كان من أدنى طبقات المهاجرين وأسهلهم اختلاطا وأكثرهم فهما لعاداته.. لكنه كان ابن حركة التفرنج والتغريب التى عبرت عنها أغنية «البيه والهانم عاملين ابونيه وقص الشعر ده فايدته إيه»، وقد ولدت شخصية كشكش بيه لتسلية السماسرة والتجار المتفرنجين على المصريين، وسر نجاح الشخصية يكمن فى موسيقى سيد درويش الذى أدخل هذه المسرحيات كل بيت!. وأبلغ رد على هذه الاتهامات هى المعركة التى نشبت بين الأديب عباس العقاد والفنان محمد عبد الوهاب، إذ قال العقاد إن الريحانى هو الفنان الذى يغنيك تمثيله عن موضوع التمثيل، ومن ميزاته الفناء فى الشخصية المسرحية وهذه طبيعة الأداء الأصيل. والريحانى خلق معلما للممثلين ومعلما للمتفرجين، أما موسيقار الأجيال فقال إننى لا اتخيل الريحانى إلا مبدعا مظلوما سرقت خشبة المسرح الكثير من عبقريته فى التعبير الصامت أمام كاميرا السينما فكأنه خلق لها وخلقت له، وهى معركة تشهد بالبلاغة التعبيرية فى موهبة الريحانى التى عايشت الوعى المصرى وطبيعته الضاحكة فكتب لها شهادة الخلود!. لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف