الرئيس ترامب هو أول من دشن تعبير الصفقة فى العلاقات الدولية. التعبير مأخوذ من عالمه الخاص بالعقارات والاستثمارات والعقود مع الشركات المنافسة. فى العلاقات الدولية هناك مفاوضات واتفاقات ومعاهدات وليس صفقات بمعناها الوارد من عالم رجال الأعمال والشركات. مصالح الدول والشعوب تحكمها قواعد ومعايير أكبر من تلك التى تحكم إبرام الصفقات التجارية. قواعد تنطلق من تاريخ تلك الأمة أو تلك ورؤيتها لنفسها وهويتها وحضارتها وعلاقاتها مع جيرانها المباشرين أو هؤلاء البعيدين، ومستوى تطورها الاقتصادى والتعليمى والابداعى وكل ما يدخل فى باب القوة الناعمة والتأثير والنفوذ. من يتجاهل كل هذه الاعتبارات والمعايير لا يحقق شيئا. من يتصور أن لديه القدرة على توقيع العقاب على الآخرين دون رد يبتعد كثيرا عن تحقيق أى نجاح حقيقى له قابلية الاستمرار. بتعبيرات عالم البيزنس لن يحقق أيةصفقات ناجحة. أولى الصفقات الموعودة أمريكيا والمقدر لها الفشل التام هى ما يوصف بصفقة القرن، والمقرر لها أن تعلن رسميا بعد عيد الفطر المبارك، والتى بنيت حسب كل التسريبات على عدة افتراضات لا أساس لها، وتعكس جهلا تاما بالمعايير التى تتمسك بها الشعوب فى الحصول على حقوقها الضائعة، أولها أن الفلسطينيين سوف يتخلون عن حقوقهم الوطنية مقابل بعض الأموال وتحسينات هامشية فى حياتهم اليومية دون أن يكون لهم توصيف محدد كمواطنين فى دولة معترف بها دوليا. وهو افتراض وهمى بنى أيضا على افتراض وهمى آخر قوامه أن الأرض المقدسة بالنسبة للإسرائيليين ليست كذلك بالنسبة للفلسطينيين، وبينما يتم تأكيد حسب التسريبات حقوق الإسرائيليين المزعومة فى القدس وفى كل أرض فلسطين المغتصبة، يتوهم صانعو الصفقة الفاشلة مسبقا بأن الفلسطينيين ليس أمامهم سوى التنازل عن حقوقهم المشروعة فى القدس وفى باقى الأراضى المحتلة. والافتراض الثالث يتوهم أيضا أن الفلسطينيين جميعا، سواء فى الضفة أو غزة أو عرب 1948 سوف يقبلون بطيب خاطر دولة اسرائيل اليهودية الخالصة التى ستطرد عرب 48 من أراضيهم التاريخية ليعيشوا فى تجمعات سكانية فلسطينية مُسيطر عليها إسرائيليا بالكامل دون أن تكون لهم هوية محددة. والافتراض الرابع أن المقاتلين من الفصائل الفلسطينية سوف يلقون بسلاحهم المُقاوم من أجل رواتب شهرية توفرها لهم مصادر عربية، وأخيرا أن العرب سيقبلون بأن يكونوا ضامنين لتفوق إسرائيل بل وممولين لكل بنود الخطة وضاغطين على الفلسطينيين ليقبلوا الاستسلام الكامل وإلا نالوا العقاب الأمريكى. مثل هذه الصفقات غير المتوازنة والقائمة على تصورات بعيدة عن الواقع مآلها الفشل حتى قبل أن تعلن رسميا. الأمر ذاته ينطبق على نموذجين آخرين تشارك فيهما إدارة ترامب، وهما المفاوضات التجارية الصينيةالأمريكية، والمفاوضات مع كوريا الشمالية بهدف نزع سلاحها النووى. فى حالة الصين يبدو الرئيس ترامب وإدارته على قناعة تامة بأن هذه المفاوضات هى لتركيع الصين وإذلالها والتأثير السلبى على قدرات اقتصادها المتنامى والذى يمثل تهديدا للتفوق الاقتصادى الأمريكى ذاته، وليس للوصول معها إلى اتفاق ينظم التجارة بينهما وبما يحقق فوائد متبادلة ومتوازنة لكليهما وأيضا للاقتصاد العالمى ككل. وهى مفاوضات بلا شك صعبة وتتطلب نفسا طويلا ومباحثات معمقة فى تفاصيل متشعبة ومتداخلة، ولذا فالتسرع من أجل إنجازها لن يفيد أحدا. وبينما يغرد الرئيس بأن المفاوضات مع الطرف الصينى تشهدا تقدما ولو بطيئا، يقرر رفع الرسوم الجمركية من 10 إلى 25 فى المئة على بضائع صينية بقيمة مئتى مليار دولار، وبدء عملية رفع الرسوم على جميع الواردات من الصين والتى تقدر بثلاثمائة مليار دولار. إذ بدلا من توفير مناخ هادئ للمفاوضات يقرر إشعال الموقف. الافتراض الأمريكى الضمنى هنا قائم أيضا على تصور خاطئ شقه الأول أن هذه الخطوة ستدفع الصين إلى قبول العروض الأمريكية فى المفاوضات وهى صاغرة، وشقه الثانى أن الصين سوف تتجنب أى تصعيد ولن تتخذ أى إجراء مضاد، وهو ما أعلنت بكين انها سترد على هذا الإجراء بمثيل له. وفى كلا الشقين يتصور الرئيس ترامب أن الآخرين ليس لديهم سوى الانصياع للرغبات الامريكية او أن يخسروا الكثير، وذلك دون حساب الخسائر التى يمكن أن ترتد على الولاياتالمتحدة نفسها. والنتيجة الطبيعية لهذه القرارات الغريبة أن الثقة فى المفاوض الأمريكى تهبط الى أدنى المعدلات، وبدلا من الوصول الى صيغة وسط قابلة للتطبيق والاستدامة لزمن معقول، تستمر الشكوك فى جدية الطرف الأمريكى وبما يؤخر أى اتفاق تجارى متوازن ينتظره العالم كله. وحالة المفاوضات مع كوريا الشمالية تجسد بدورها كل اسباب الفشل المسبق. إذ ذهب الرئيس ترامب للقاء نظيره كيم فى فيتنام فبراير الماضى، وفى سنغافورة يونيو 2018 دون ان يقدم شيئا وطالبا فى الآن نفسه بأن تقدم كوريا الشمالية كل شىء، وأن تتنازل عن كل متطلبات حماية أمنها القومى دون أى مقابل أمريكى ودون أى نية لرفع العقوبات أو تخفيفها تدريجيا. الأمر على هذا النحو يضع أسسا لفشل أى مفاوضات، وبالتالى فلا صفقات يمكن تحقيقها. وبدلا من أن يتجه الطرفان لبناء ثقة متبادلة تزداد الشكوك فى أن يحدث أى تقدم. وتجارب الصواريخ القصيرة المدى التى نفذتها بيونغ يانغ وكذلك تعليمات الرئيس كيم لجيشه بالاستعداد القتالى الكامل رسالة قوية بأن الصفقات بالمنطق الأمريكى لن تتحقق أبدا. الخلط بين مسارات تفاوض الدول بمعاييرها التقليدية وبين مسارات إبرام الصفقات التجارية بين كيانات اقل من الدول يؤدى إلى الفشل. التهديد باستخدام القوة عمل معيارى تقليدى فى العلاقات بين الدول سواء بصورة مباشرة او مستترة، له أيضا ضوابطه، فإن لم يكن محسوبا بدقه المقصود بهذا التهديد يصبح تهديدا أجوف يقود بدوره إلى ضياع الهيبة والتأثير ويفتح الباب امام مفاجآت غير محسوبة ومحملة بالخطر. كل التدابير العسكرية التى أقدمت عليها واشنطن تجاه ايران أخيرا، ثم دعوة الرئيس ترامب لطهران المجىء للتفاوض للخروج من أزمتها، يعكس تشوشا فى إدارة الازمة مع إيران، ويضع الكثير من القيود على أى مفاوضات محتملة، مما يجعل الصفقة المأمولة أمريكيا أبعد مما يمكن تصوره. لمزيد من مقالات د. حسن أبوطالب