بعد أن نجح الرئيس التركى أردوغان فى استصدار قرار من اللجنة العليا للانتخابات يقضى بإلغاء نتائج انتخابات إسطنبول, التى فاز فيها مرشح المعارضة لأول مرة منذ ربع قرن، أطلق الرئيس التركى تصريحا مهما قال فيه: إن إلغاء نتائج انتخابات إسطنبول خطوة مهمة لتعزيز ديمقراطيتنا، فى الوقت الذى توالت فيه التصريحات من مختلف المكونات، والأحزاب التركية بما فيها قيادات سابقة فى الحزب الذى يقوده أردوغان, مثل عبدالله جول الرئيس السابق، واحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء السابق, تؤكد العكس, باعتبار أن هذه الخطوة انتكاسة خطيرة فى القيم السياسية التركية، وانقلاب مدنى على الديمقراطية، ورفض لنتائج الانتخابات لأن مرشح المعارضة فاز فيها. وهنا لابد أن نعرف أهمية بلدية إسطنبول ورمزيتها التى جعلت الرئيس التركى يقاتل بكل ما أوتى من شراسة لإلغاء فوز مرشح المعارضة بها، فقد كانت بلدية إسطنبول هى منصة انطلاق أردوغان وحزبه الى حكم تركيا، والهيمنة على جميع السلطات فيها، وتحويلها من نظام الحكم البرلمانى الى نظام الحكم الرئاسي, الذى يمهد الطريق لأردوغان فى تحقيق حلم العثمانية الجديدة, بإعادة الخلافة فى صورة عصرية تسمح لتركيا أن تقود المشرق الإسلامى بلا منازع. فبلدية إسطنبول هى مركز القوة الاقتصادية والسياسية والسكانية التركية، ومن يحكم إسطنبول يحكم تركيا، ويخلق فى الوعى الجمعى التركى صورة الزعيم الحقيقى الذى تتماس قراراته مع حياة أكبر تكتل سكانى من النخبة التاريخية التركية، لذلك لم يقبل اردوغان بقرار الناخب التركي، وانقلب عليه لأنه جاء عكس مصالحه. وحيث إن الحفاظ على حكم بلدية إسطنبول مصلحة حيوية مهمة عند أردوغان، وهدف فى ذاته، فإن الديمقراطية وما تعبر عنه من مفاهيم حكم الشعب، واحترام نتائج الانتخابات، وترك القول الفصل لصناديق الاقتراع تصبح كلها وسيلة لغاية واحدة، وهى أن ينجح مرشح حزب العدالة والتنمية الذى يمثل أردوغان. أما إذا جاءت نتائج الانتخابات، وكان تطبيق الديمقراطية يجهض الأهداف العليا، ويجعل أردوغان وحزبه يخسران بلدية إسطنبول بما تمثلهمن أهمية سياسية ورمزية, فتصب كل اللعنات على الديمقراطية، وتداس نتائج الانتخابات، ويتم التحايل والتهديد لإلغائها، لأنها لم تكن فى عقل أردوغان وحزبه الا وسيلة لتحقيق هدف، ولم تكن يوما فى فكر جماعة الإخوان الفاشلة، وكل تنظيماتها وأطيافها مهما تنوعت أسماؤها إلا وسيلة لوصولهم هم الى السلطة، لأن هذه هى ديمقراطيتنا أى التى توصلنا للحكم، أما إذا جاءت الديمقراطية بعكس ذلك؛ فتصبح ديمقراطيتهم لأنها جاءت بهم الى السلطة. لم يكن تعبير أردوغان بكلمة ديمقراطيتنا عبثياً أو مجازياً، لأن هذا التعبير لم يرد على لسان أحد قبله، فلم يقل أحد ديمقراطيتنا, لأن الديمقراطية مفهوم إجرائي، وليست قيمة فى ذاتها، وإنما هى مجموعة إجراءات تضمن تحقيق مفاهيم الحكم الرشيد، أو حكم القانون، وهذه الإجراءات متعارف عليها دولياً، وهى أن يكون الحكم معبراً عن إرادة الشعب, من خلال وسائل معينة تختلف من مجتمع لآخر. وأهم مؤشرات تطبيق الديمقراطية الرضاء برأى الشعب أيا كانت وسيلة التعبير، فإذا كانت الانتخابات هى الوسيلة فتكون نتائج الانتخابات هى الكلمة الفصل، وهى عنوان الحقيقة، أما أن يتم التحايل لإلغاء نتائج الانتخابات لأنها لم تحقق مصالحنا، ولم تأت بمرشحنا للسلطة، ولم تحافظ على سلطتنا فهذه ديمقراطيتنا وليست الديمقراطية المتعارف عليها عند الشعوب التى تأخذ بهذا النظام فى الحكم، ومن ثم تكون هناك ديمقراطية أردوغان، وديمقراطية إخوان ليبيا الذين رفضوا كل نتائج الانتخابات التى لم تحقق لهم أغلبية، وحافظوا على المجلس التشريعى الأول بعد سقوط القذافي، ولم يعترفوا بغيره على الرغم من أن الانتخابات التالية كانت نزيهة ومعترفا بها دوليا، ولكنها لم تمنحهم الأغلبية، ولم تحقق مصالحهم، لذلك كان شعارهم هو ذاته شعار أردوغان، وهو ديمقراطيتنا التى تحقق مصالحنا، وتنجز أهدافنا، وتأتى بنا الى السلطة، أما إذا جاء خصومنا فهذه ديمقراطيتهم، ولن نعترف بها، ولن نقبل بها. إن التنظيمات الأيديولوجية التى تؤمن بأنها تمتلك الحقيقة، وأنها هى الصح المطلق، وأنها هى الصواب المطلق، وأنها هى المتحدث الوحيد باسم الخالق، وأنها هى الوصية على عباد الله التى تختار لهم طريقة الحياة، وتحدد لهم الصواب من الخطأ، وتفرض عليهم وصاية عامة، هذه التنظيمات لا تؤمن بالديمقراطية بأى معني، وإنما تتعامل معها كوسيلة تستخدمها لخداع الآخرين، واستغلالهم من أجل تحقيق أهدافها وبعد ذلك ستلعن الديمقراطية، والأدبيات التى تجعل الديمقراطية معادية للإسلام موجودة وجاهزة. لذلك لا ينبغى الانخداع بشعارات هذه التنظيمات، ولا ينبغى السماح بوجودها أصلاً فى العمل السياسي، فجميع الأحزاب الأيديولوجية, سواء أيديولوجية عنصرية مثل النازية، أو أيديولوجية طبقية مثل الماركسية، أو أيديولوجية دينية مثل تنظيم الإخوان الفاشل والجماعات المماثلة له، جميعا لا يمكن النظر اليها على أنها أحزاب تنافسية تقبل بنتائج الديمقراطية لأنها تؤمن بامتلاك الحقيقة المطلقة، لأن الديمقراطية بالنسبة لها وسيلة، مثلما عبر أردوغان عن فعل غير ديمقراطى بأنه يعزز ديمقراطيتنا التى تحقق أهدافنا. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف