حريق كاتدرائية نوتردام يوم 25 أبريل 2019، وانهيار سقفها قد أوقف فجأة خطوات الزمن وفرض لحظة شعور بالنهاية وبالعجز الإنساني.. لقد قدمت كاتدرائية باريس لمحبى الثقافة الفرنسية وللعالم أجمع مشهدا مؤثرا بعد أن أصيبت بتلف وحشى أكده انهيار سهمها الرصاصى الثقيل وترنح الصليب الذى يزين قمة ذروتها، شعرت شخصيا بالحزن لأننى عشت سنوات طويلة فى حى لصيق بها أمر أمام سيدة باريس كثيرا.. وأتأملها.. بعيوني.. وقلبي.. حيث هناك أماكن قليلة جدا فى العالم تتشابك فيها عظمة السماء وخشوع البسطاء ومآثر مؤسسيها وكبرياء العظماء وتاريخ أمة اختارت لنفسها مصيرا عالميا.. وإذا أضفنا تأثير الروايات والأساطير التى قرأتها عن هذا الصرح فإن سيدة باريس شهادة فريدة لعبقرية الإنسانية انها تمثل التواصل بين الأسس الروحانية للحضارة وتطورها المتحفى فى العصر التالى للمسيحية.. ومنذ قرون والكاتدرائية ترسخ إيمان الكاثوليك الفرنسيين واستقطبت أيضا إعجاب العلمانيين والملحدين وجميع المذاهب وكل الذين لجأوا إليها ليشعروا بالأمان والسلام.. بسبب كل هذه الفضائل وخصوبة العواطف التى فجرتها صور الحريق أصبحت فرنسا محل اهتمام العالم.. ويعتبر الفرنسيون أن نوتردام وصلت إلى الحقبة الثالثة من عمرها.. فبعد عصر الإيمان المسيحى، ثم عصر تكريس التاريخ القومى لفرنسا، فلقد دخلت نوتردام دون تجعيدة واحدة فى مرحلة التراث العالمى وهى عظمة التفوق. «فيكتور هوجو» كان قد فهم جيدا أهمية هذه الكاتدرائية وأطلق عليها «الكنيسة الخرافية» ولذلك اختفت رواية نوتردام دى بارى من الأسواق فى ساعات عقب الحريق. لقد كتب «هوجو» «إن أعظم أعمال العمارة أعمال اجتماعية أكثر من كونها فردية وهى مخاض الشعوب التى تعمل أكثر من كونها نتاج حفنة من العباقرة» أكتب اليوم عن سيدة باريس لأننى زرتها ولم أتجاوز التاسعة عشرة عندما أرسلنى أبى رحمه الله لزيارة باريس بعد وفاة شقيقى.. واكتشفت أن لها قدرة عظيمة على تضميد الجروح ومقدرة أعظم على إثارة الانبهار! أما الفرنسيون فهم يرون أن نوتردام تحمل لغزا وسرا خفيا موجودا داخل قلب الشعب الفرنسى ولخصه اندريه مالرو الفيلسوف العظيم من خلال هذه الكلمات «الصمت العريق لقرون من الاصرار والعناد» إن هذه الطاقة هى التى تفتن الجماهير وتطرح سؤالا على الفرنسيين هل هم قادرون على الإقدام على تلك التجاوزات. إن إعادة بناء سيدة باريس تأخذ قيمة رمز سياسى بالطبع .. لقد فهم ماكرون ذلك جيدا عندما أعلن أن اتمام البناء على مدى خمس سنوات يعتبر مشروعا قوميا كبيرا . إن نوتردام لا تكتفى بأنها تاريخ، فرنسا كما يؤكد «كريستيان ماكاريون» المحلل السياسى والاجتماعى، إنها تاريخ ايمان وحضارة وشعب يتطور دائما ويستأنف سباقه أبعد من التقديس. ويقول الآن المراقبون فى فرنسا إن إعادة البناء نعم ولكن الاتحاد بعد الانقسامات بين الفرنسيين. إن فرنسا سوف تقوم بتعبئة امكاناتها الفنية والحرفية لتبرهن مرة أخرى أنها قادرة على التسلح بتقليد الامتياز وبجمع اصحاب الواجب. ويبقى أن العمارة هى كتابة الرواية القومية التى تتطلب الاقتناع وانطلاقة جماعية تتجاوز عبادة الأحجار، هذه الرسالة توجهها كاتدرائية سيدة باريس للفرنسيين. ويذكرنى حريق نوتردام بحريق الأوبرا المصرية فجر يوم 28 أكتوبر 1971والذى اعتبره المصريون كارثة حلت بقطار الثقافة ايامها هناك تشابه بين الشعبين المصرى والفرنسى، فهل لنا أن نأمل فى بناء أوبرا خديوية من جديد؟!.. إنه حلم راودنى كثيرا.. والاحلام احيانا من الممكن أن تتحقق من أجل الأجيال القادمة. لمزيد من مقالات عائشة عبدالغفار