الخوف.. خواف - وعيونه حويطة ياحببتى.. أنا بَحْقِد على الحيطة علشان الحيطة مبتعيطش ومبتحزنش زيينا - ومبتحلمش أحلامنا ورانا الموت.. وأدمنا! هنعمل إيه!؟ 53 عاما مرت على مولد شاعر العامية “بدوي جمعة” الذى طرح هذا السؤال، عبر تلك الحروف، والكلمات، دون أن يعرف، ماذا هو فاعل أمام “الخوف” الذي عاشه، وخافه؟ وتسبب فى تفكيك مفاصل جسده الضعيف، كلما رآه معلقا بجوار صور صلاح جاهين. وفؤاد حداد. ومديحة كامل. ونادية لطفي. ومحمود الخطيب. وحسن شحاتة،على حوائط حجرته الصغيرة، فى منزله القديم، المتهالك، المسنود على دعاء أمه العجوز كل صباح. أو رآه وهو فى طريقه للمترو على وجوه عمال اليومية، الجالسين على نواصى الطرقات البائسة. أو لمحه فى عيون جيرانه، الذين يكملون ليلهم الطويل نوما، هادئا، غير هانئ، على وسادات الجوع، والقهر، والمرض دون شكوي أو أنين. هذا “الخوف” هو الذى جعله يخاف، حتى من الحب نفسه، الذى أحبه بصدق، وعنف، لبنت الجيران، ولم يعطيه الفرصة ؛ ليعترف لها بحبه، الجارف، والمشتعل دوما. وكان من تبعات ذلك “الخوف” إصابته بصدمة نفسية شديدة القسوة ألمت به، فأفقدته توازنه النفسي والعقلى ما يقرب من 30 عاما، قضاها بين عيادات الأطباء النفسيين، حتى استقر به الأمر فى عيادة الدكتور يحيي الرخاوي أستاذ الطب النفسي، الذي استطاع بعد جلسات علاجية متعددة، إنقاذه من الأزمة التى كادت أن تعصف بعقله بعد أن عصفت بقلبه لتحوله من عنبر الشعراء العقلاء وهم قليلون إلى عنبر الشعراء المجانين وهم كثيرون هؤلاء الذين كتب عنهم وعن نفسه بالطبع تقريرا، نفسيا، شعريا، وفلسفيا، جميلا.قال فيه: كان نفسي اتجنن واتجننت - وجنانى تمرد على القوانين على عيشة كل البنى أدمين أنا لما بقيت كده من المجانين - حسيت اننى بالفعل عقلت. - كان نفسي اتجنن.. واتجننت!! - قول زي.. ما تحب تقول.. قول. - قول.. إن جنانى ماهوش معقول. - طيب آيه فى الدنيا دى معقول؟ - يللى أنت بمُوت الحلم آمنت”! (المعادى 2019) الساعة الآن الثامنة مساء، أجلس على مقهى فى شارع 9 بجوار محطة المترو. انتظر”بدوي جمعة” حسب الاتفاق المبرم بيننا. مرت ساعة وأكثر، وهو لم يأت. هاتفته عدة مرات. لم يرد. بعد نصف ساعة اتصل هو قائلا: يا خيري .. أنا لا أحب صحافتكم ولا أعلامكم؛ ولا مؤسساتكم الثقافية، ولا مؤتمراتكم الأدبية، لأنها ببساطة لا تعرفنى، ولا تسمعنى، ولا تريدنى أصلا. وهم سعداء بتلك العلاقة، وأنا أيضا أبادلهم نفس الإحساس! يا صديقي.. أنا لا أري ضرورة من هذا اللقاء.. والأفضل أن نبقي أصدقاء، بعيدا عن الكتابة. قلت: لكننى أصر على هذا اللقاء، وفى انتظارك هنا حتى الصباح، ولن أغادر مكانى فى المقهى حتى أراك. بعد نصف ساعة جاء بخطوات بطيئة بعدما ارسلت له صديقنا المشترك يسري مبروك وعلى وجهه حالة رضا، وهدوء، وابتسامة معجونة بماء الأحزان. جلس على أقرب مقعد أمامه، وجهه شاحب، وملامحه قلقة. يرتدى بدلة رمادية عرفت من “يسرى” إنها الوحيدة لديه، وارتدها بعد ضغوط شديدة منه عليه وفى يده علبة سجائر صيني رخيص الثمن. جاء النادل بالشاى.”بدوي” سارح بخياله. وأنا اتحدث. هو غير مهتم بما أقول. لاحظت أنه يركز سمعه، وحواسه، ناحية صوت نجاة المتسرسب لنا، عبر نافذة كشك سجائر بجوارنا وهى تغنى: “أسمر .. يا أسمرانى .. محبة . أسمر يا أسمرانى”. كان يدندن معها بكل مشاعره وأحاسيسه، ويحرك يديه برفق مع اللحن بسعادة غامرة. “يسرى” يمسك بالملعقة، ويضع له السكر في الشاي. وأنا ابتسم له، لأنني أعرف أن حبيبته التي أضاع عمره فى عشقها، وكاد يفقد بسببها عقله، كانت سمراء الملامح. يقول بدوى بعدما أشعل سيجارته: نعم كانت جميلة وسمراء البشرة، وبيضاء القلب، فيها صفاء النيل، وعذوبته، وهدوءه، وجماله، وسحره. وكانت لى كل شئ، فى الوقت الذي لم أكن امتلك فيه أى شئ. ثم سكت قليلا، وامسك بكوب الشاي ليرتشف ما تبقى فيه. ثم قال بهدوء: كانت أيام جميلة، يا ليتها تعود! (شقة حدائق المعادى عام 1980) الزوجة تجهز إفطار الصباح لزوجها الذى أصابه المرض. وتحمل إليه في حجرته الشاي والماء والدواء وشاندوتش الجبنة البلدي قليلة الملح. بعد انتهائه من الإفطار. قالت من باب رفع روحه المعنوية “ يا سي جمعة.. ابنك بدوي يكتب الشعر والأغاني”! يعتدل الأب على مقعده، ثم يترك الأدوية، وتعليمات الأطباء، ويطلب مساعدته للوصول لحجرة ابنه. بعد دقائق يصل. يقف الابن منتبها، ومنزعجا، وخائفا. يضحك الأب ويقول: هل تكتب الشعر والأغاني يا ولدى؟ يهز الابن رأسه بالإيجاب وهو يتصبب عرقا. يضحك الأب ضحكته الأخيرة. ثم ينصحه أى الأب لأنه كان يكتب الزجل فى صغره، قبل أن تطحنه الحياة من أجل لقمة العيش، فإضطر للعمل طباخا، حتى هاجمه المرض، وهجر الشعر قائلا: “ يا ولدى عليك بالقراءة في شتى المجالات، والأهم قراءة وحفظ أبيات كثيرة من الشعر. الأب قال ما لديه، ثم عاد إلى حجرته يتكأ على زوجته الحزينة، حتى استلقى على سريره. أيام معدودة مرت، اشتد فيها عليه المرض، وفى صباح فجر يوم حزين.. مات الأب.”بدوى” جلس يبكيه، حتى ابتلت أيامه ولياليه بالدموع حزنا عليه. (رمسيس 1990) نحن الآن فى صحيفة المساء، داخل مقر ندوة الكاتب محمد جبريل. “بدوي” يجلس وسط الحضور. ثم يقف لحظات. ويتقدم خطوات، ليقدم نفسه وشعره للجمهور المتواجد، يمسك فى يده ورقة. وفى قلبه حلما. وفى عقله كلمات كان الشاعر والزجال “أبو سعاد” قد قالها له من قبل. يقول: بدوي وهو يضحك: عندما تعرفت على هذا الشاعر الجميل قال لى:”أنت يا بدوى موهبة جبارة .أنت امتداد لصلاح جاهين”.. هذا الكلام جعلنى طائر في الفضاء من الفرحة والسعادة، فدخلت الندوة منتشيا، وشامخا، واثقا من امكانياتى ثم حدث ما حدث بعدما ألقيت عليهم قصيدة شعر غنائية قلت لهم فيها: “أسافر ويا أحزانى وبرجع ليكى من تانى علشان قلبك.. علشان حبك علشان تكمل بيكى ألحانى”. قلت : دعني من الشعر قليلاً، لنعود للحب وسيرته و”سنينه”.. هل كتبت تلك الكلمات لحببتك سمراء النيل كما تحب أن تطلق عليها؟ رد: كتبت لها كل الحروف وكل الأشعار وكل الأغنيات. كتبت لها، ومازلت أكتب لها، بعدما حولتني إلى شاعر، فهي كانت كلماتي وألحاني وأيامي ولياليه البعيدة، والجميلة، وعمري الذي راح. ابتسمت وأنا أقول له : لكنه حب كاد أن يصل بك إلى حافة الجنون؟ رد ضاحكاً ؟ وما الحب يا صديقي، إلا نفحة من نفحات الجنون! طلبت من النادل فنجان قهوة له أراده هو سادة ثم قال: الآن عندما انظر للماضي أجدني، كنت متيما بحبها إلى حد الجنون بالفعل، وهذه الحالة من العشق لم تجعلني استطيع طرد الخوف من داخلى، حتى أبوح لها بالحب، الذي سرق سنوات الصبا والشباب. ثم سكت بعض الوقت يسترجع ذكرياته قائلاً: منذ ما يقرب من 30 عام، عدت للبيت، فوجدت أنوار في الشارع، ومظاهر فرح فى بيتها. انخلع قلبي. تهاوت أقدامى، دخلت حجرتي، بعدما عرفت بالمأساة. الليلة زفافها على قريب لها. في تلك الليلة، ضاقت بى حجرتي، وشقتنا الصغيرة، والشارع، والحى، والحياة كلها. وبكيت حتى غرقت مخدتى بالدموع، ثم بدأ يتذكر بصوت شخص مهزوم ومكسور مشاهد قديمة من رحلة حبه الحزينة! ( السيدة زينب عام 1978) الساعة الآن الثانية من ظهر يوم شتوي غائم. ناصية شارع المبتديان أمام المدرسة السنية الثانوية بنات.”بدوي” يقف بعيداً ينتظر حببته حتى يراها، وهى تغادر مدرستها. هى تخرج الآن، تحمل حقيبتها الصغيرة، وتلقى بشعرها الناعم على غمامة سارحة فى الفضاء. هو بإعجاب شديد يتأملها . يمشى على الناحية الموازية. يراها رويدا رويدا، تختفي في زحام الشارع. بعدها يعود ويجلس على ناصية الشارع، حتى يحل الظلام، ليعود إلى بيته. يقول بدوي: كانت أيام جميلة، لقد أحببتها منذ صغري، وعشقت ملامحها، وتسريحة شعرها، ونظرة عيونها، وضحكة وجهها، وبساطة ملابسها. ورغم تركي للتعليم بعد المرحلة الإعدادية، ولم أعد أذهب للمدرسة الثانوية، إلا اننى من أجل عيونها كنت أذهب لمدرستها كل صباح، حتى أراها ثم أعود من حيث جئت. كتبت فيها ولها الشعر والأغاني دون أن تعرف بقصة حبي الجارفة، التي حولتني إلى عاشق. إلى ولهان،.إلى مفتون، إلى مجنون. هنا أمسكت بكوب الماء الذي مازال أمامه وقدمته له ثم قلت: ولماذا لم تقترب منها وتعترف لها بحبك؟ قال: لم استطيع البوح لها، بعدما عرفت أن أسرتها ترفض زواج بناتها من خارج العائلة! وسجنت حبي بين ضلوعي سنوات طويلة. الغريب فى الأمر اننى اكتشفت أن شقيقتها الكبرى كانت تحبنى من طرف واحد مثلما أحببت أنا من طرف واحد ! ومرت الأيام، وعدت الشهور، تحول فيهما، الحب إلى حزن. والحزن إلى اكتئاب، والاكتئاب إلى حالة نفسية استدعت العلاج 30 سنة حتى حدث تحسن ملحوظ فى حالتي .. هكذا يتذكر بدوي تلك الأيام الكئيبة قائلاً: حدث هذا على يد الدكتور يحيي الرخاوى.