فى 1966 وجد «الأبنودى» نفسه فى معتقلات عبد الناصر !، لكنه بعدها بعام واحد ومع النكسة التى حطمت قلوب المصريين وكسرت أعناق الرجال ،انتفض وشمرّ عن ساعديه وكتب :(« أحلف بسماها وبترابها ،احلف بالقمح وبالمصنع ،باولادى بايامى الجاية ما تغيب الشمس العربية طول ما انا عايش) وقدمّ المرثية العظيمة (عدى النهار) ،كانت كلمات قاسية لكنها مثل ضمادات لابد منها كى تشفى الجروح. وفى 1968 جففّ دموعه وقرر مواجهة «عتريس » وكتب سيناريو وأغانى فيلم «شىء من الخوف ». ثلاث سنوات مهمة فى مسيرة « عبد الرحمن الأبنودى » يجهل معناها هؤلاء الصغار الذين يتطاولون على الشاعر الكبير عبر حملة تجريح خسيسة كانت ومازالت مؤلمة وقاسية لمن عاش قصة طويلة مع الخال. ............... «قول ياعم جابر». من تلك العبارة عرفتُ الأبنودى صوتاً . كان عمى مأذون القرية ( برطباط المنيا ) مصدر الفخر للعائلة لأنه من أوائل الذين امتلكوا جهاز (الراديو) ،كان يعلقه بجوار عصاه الأبنوس .. ولم أكن أعرفُ آنذاك الأوقات بالساعة وإنما بالمواقيت :صبح وظهر وعصر ومغرب وعشاء ..وبعد صلاة العشاء يأتى الليل الحقيقى ،تبدأ الأسطورة ،ويلتف العواجيز من الأعمام والأخوال أمام المنزل ،فتضرب الربابة ،وتنطلق السيرة الهلالية ، وتتمايل الرؤوس مع أبو زيد الهلالى وهو يطعن الأعداء ،وكثيراً ما تعرضتُ مع أقرانى من الأطفال البلهاء للتوبيخ كلما ثرثرنا أو ارتفع صوتنا ولم يسمع أحدهم مشهداً من مشاهد الصراع . ............... كبرنا،ومات عمى،واختفت السيرة ولياليها الجميلة ،دارت بنا الأرض ، وقرأتُ وعرفتُ أن الخال(عبد الرحمن الأبنودى)هو صاحب الصوت الذى يشرح القصة قبل أن يغنى «عم جابرأبو حسين » على الربابة ، وهو أيضاً الشاعر العنيد الذى قرر جمع السيرة الهلالية من عواجيز القرى والنجوع والبلاد العربية باعتبارها ميراثاً عربياً يجب تخليده،وهو الشاعر الذى كتب أحلى أغانى الذاكرة المصرية (عرباوى وشاغلاه الشابة الحلوة السنيورة أم التربيعة بترسم ضلاية على القورة» . لم يرتخ عود الأبنودى مرة ، لم يفقد قوته وحضوره ،حاربوه ،فذهبوا وبقى الفتى الأسمر الذى تعشقه الجدات فى القرى والنجوع ،ويحفظ أشعاره شباب الجامعة الأمريكية ، جمع كل هؤلاء : الجينز والبالطو والجلباب .. الطرحة والحجاب وتسريحات الهوانم. جاء الأبنودى من هناك ، من قرية تحاصرها الصخور والأحجار ،وتشعل نهارها شمس حارقة تتوسط السماء ،تبدو قاسية وموحشة ولا يخفف جبروتها سوى قلوب أهلها ،هؤلاء الطيبين من الجدات الجالسات على عتبات البيوت ،وهل كانت (امنة) سوى واحدة منهن ؟. ............... اعتبر «الأبنودى» ثورة يوليو جزءًا منه ومن طموحاته فغنى لها وكتب روائعها لكنه،لم يقدس عبد الناصر أو يراه ملاكا ، وحدث الصدام ودخل الشاعر المعتقل ، وتوسط له الشاعر الكبير «صلاح جاهين» وخرج مع الشاعر «سيد حجاب « ، لكن الصدام الأكبر كان من الوشاة أو المخبرين الذين حاولوا توريط الشاعر مع عبد الناصر نفسه ،وكتبوا تقارير رقابية خطيرة حول فيلم (شىء من الخوف)المأخوذ عن رواية للكاتب الراحل ثروت أباظة . تبرأ أباظة من معالجة الرواية سينمائياً ،وأصبح الأبنودى الذى كتب السيناريو والحوار والأغانى هو المتهم بالتطاول على الثورة وعلى عبد الناصر نفسه !، فالبطلة فؤادة هى مصر وعتريس الذى اغتصبها هو عبد الناصر .. ورجال عتريس الذين يحرقون الأرض ويغتصبون النساء ويمارسون الجبروت هم رجال الزعيم! ،و شاهد عبد الناصر الفيلم ،وبذكاء وخبث ومكر،وافق على عرضه دون حذف مشهد واحد أو أغنية واحدة . ............... كم أغنية تُحب ؟ عليك أن تسأل نفسك ، لأنك ستكتشف أن الأبنودى حاضرا مهما كانت الاختيارات ؟ لأنه ببساطة كتب أجمل الأغانى من عبد الحليم حافظ إلى محمد منير ،ومن «شىء من الخوف» إلى أغانى فيلم (البرىء) ، كتب لصباح أغنيتها الفلسفية الرائعة (ساعات ساعات ،أحب عمرى وأعشق الحياة .. ) ،وتصالحت وردة مع الأيام وأعادها إلى جمهورها بعد غياب بأغنية ( طبعاً أحباب ) ،وتجدد منير والأبنودى معاً بعدد من الأغنيات (شوكولاتة ، كل الحاجات بتفكرنى ، من حبك مش برىء ، برة الشبابيك ، الليلة ديا). كان الأبنودى على أرض المعارك الوطنية.. وكان هناك أيضاً مع البشر ،مع قلوب الفتيات وصوت «نجاة» ( عيون القلب سهرانة ما بتنامشى .. لا انا صاحية ولا نايمة ما بقدرشى .. )،كان هناك مع قصص الحب الكبرى عند الشباب (الهوى هوايا ابنى لك قصر عالى واخطف نجم الليالى ..) ،وكانت فايزة تغنى للبنات العائدات من حقول القطن فى القرى (ومادام معاي اللى باحبه وباريده مادام معاى ،وبنقسم اللقمه ونضحك وبنشرب شاى ) ، بينما كانت «شادية» تتمايل لجميلات القاهرة الواقفات فى البلكونات يحلمن بالشاب القوى الشهم:(أه يا أسمرانى اللون .. حبيبى يا اسمرانى ).. وعاش الشاعر الموهوب فى الوجدان والمزاج المصرى *** الأبنودى الذى كتب للعامل فى السد العالى ورسم ملامح أبطال السويس والمقاومة المصرية فى ديوان (وجوه على الشط ) ،هو نفسه الذى كتب أغنية الوطن الكبرى فى ( الموت على الأسفلت) وهو ديوان كامل عن رسام الكاريكاتير والمناضل الفلسطينى ناجى العلى ،وهو صديق لكل شعراء الوطن الذين أرسلوا توسلاتهم إليه كى يوافق على رحلة العلاج إلى فرنسا ، فقد كان الأبنودى رافضاً مبدأ العلاج على نفقة الدولة ، وكتب إلى عبد الحليم حافظ كأنما يرثى نفسه « :( فينك ياعبد الحليم؟ ،ولاعاد حبيب ينضم ،ولا عبير ينشم ،ولا ضحكة ملو الفم ،هربت ليه ياعم؟ ،مش كنت تنتظر الليالي الهم !» . وانقشعتْ ليالى الهم ،وجاء نور الصباح وأشرق قلب الأبنودى وعاد من رحلة علاج صعبة ،وكتب للميدان وهاجم مرسى وانتصر للدولة المصرية الوليدة كما يراها ويؤمن بها ، وسيظل القلب الضعيف الواهن قادراً على هزيمة ليالى الهم .. عشتْ يا «خال « .