لعل أبرز عَيبينِ فى دستور 1923 أنه أعطى الملك حق حل البرلمان، كما جعله المرجع الأول والأخير فيما يتصل بتعيين الرؤساء الدينيين والمعاهد الدينية والأوقاف التى تُديرها وزارة الأوقاف، ومن ثم مَنَحه حق الإشراف وحده على الأمور الخاصة بالأديان المسموح بها فى البلاد. وقد ظهرت نقطة الضعف المُتضمنة فى الأمر الثانى على وجه التحديد عندما سقطت الخلافة العثمانية سنة 1924 وحلَّت محلها جمهوريةٌ تركيةٌ علمانيةٌ برئاسة مصطفى كمال أتاتورك. وهو الأمر الذى أدى إلى تجمع كل القوى المتعاطفة مع فكرة الخلافة الدينية والمتحمسة لها، كما أدى إلى ظهور طموح الملك فؤاد فى أن يكون خليفة للمسلمين، شأنه فى ذلك شأن الملك عبدالعزيز بن سعود الذى تملَّكه الطموح نفسه. وما إن وصلنا إلى عام 1925 حتى أصدر الشيخ على عبدالرازق كتابه: «الإسلام وأصول الحكم» الذى انفجر كالقنبلة المدوية بعيدة المدى والتأثير، وكان بمثابة ضربة مباشرة لمطامح الملك فؤاد فى أن يكون خليفة للمسلمين. وكان من الطبيعى أن تثور ثائرة كل الطامحين إلى الدفاع عن فكرة الخلافة أو إحيائها، وأن يناوشوا الكتاب ويهاجموه هجومًا وحشيًّا باسم الدين، وهو الأمر الذى بدأ بحملة شعواء شنها الشيخ محمد رشيد رضا الذى استعدى الأزهر والدولة على السواء فى مجلته «المنار»، التى ساعده على تأسيسها شيخه المستنير الإمام محمد عبده للأسف. وكان من نتائج تأثير الكتاب أن انسحب الملك فؤاد وتخلى عن مشروعه فى وراثة الخلافة العثمانية، لكنه قبل أن يفعل ذلك أوعز إلى مشايخ الأزهر بمعاقبة الشيخ على عبدالرازق على ما فعل. وبالفعل اجتمعت مجموعة من المشايخ الذين يمكن أن نُطلِق عليهم لقب: «فقهاء السُّلطان»، وتقدموا بشكوى إلى شيخ الأزهر الذى سرعان ما أمر بتشكيل لجنة من كبار علماء الأزهر لمحاسبة أو محاكمة الشيخ على عبدالرازق الذى خرج عن المعلوم من أمور الدين بالضرورة. ولم يخطر ببال أحدهم قَط أن الخطأ مُثاب عليه فى الاجتهاد حتى فى الأمور الدينية، فلم تكن محاكمتهم للشيخ على عبدالرازق لوجه العلم أو الدين، وإنما كانت لإرضاء السلطان وتحقيق مصالحه الدنيوية. ولسوء الحظ كان أحمد زيور باشا الشركسى الأصل ورئيس ديوان الملك فؤاد، هو رئيس حزب «الاتحاد» الموالى للملك فؤاد والذى جاء به إلى رئاسة الوزراء، فى انتخابات مزوَّرة، فأصبح رئيسًا للوزراء ما بين 24 نوفمبر 1924 إلى 13 مارس 1925، جامعًا إلى منصب الرئاسة، وزارتى الداخلية والخارجية، وذلك فى تحالف مع «الأحرار الدستوريين» الذين كان أهم من يمثلهم وزير الحقانية عبدالعزيز فهمى باشا الذى كان عضوًا فى لجنة صياغة دستور 1923. وقد انتهت محاكمة الأزهر للشيخ على عبدالرازق إلى نتيجة لا بد أن تخجل منها لجنة كبار العلماء التى أصدرت حكمها المُشين بسحب درجة العالمية من الشيخ على عبدالرازق، وإصدار قرارٍ بمنع تعيينه فى أى منصب دينى أو مدنى من مناصب الدولة، وذلك تنكيلًا به وحرمانًا له من حقوقه المدنية والدينية. وهو قرار لم يكن له نظير فى خروجه على الدستور. وعندما عُرض القرار على عبدالعزيز فهمى باشا بوصفه وزيرًا للحقانية أو العدل، رفض القرار واعترض عليه مؤكدًا عدم دستوريته، ومن ثم عدم موافقته على تنفيذه. وكانت النتيجة أن غضب الملك الذى فصل عبدالعزيز باشا من الوزارة، فاضطر أقرانه من حزب الأحرار الدستوريين إلى الاستقالة من الوزارة التى كان لا بد أن تُقدِّم بدورها استقالتها إلى الملك فؤاد. وسرعان ما جاءت بعدها وزارة عدلى يكن التى قبلت التآلف مع حزب الوفد على أن يكون عدلى يكن رئيسًا للحكومة وسعد زغلول رئيسًا للبرلمان. وكان ذلك يعنى التنبه إلى مخاطر التحالف بين مؤسسة الأزهر والسلطان المستبد. وأن هذه المخاطر هى التى تسمح بتحويل الأزهر إلى سلطة دينية غير معترف بها فى الإسلام نفسه على نحو ما أكد الإمام محمد عبده، وذهب إليه غيره من مشايخ الأزهر وعلمائه الذين اتبعوه بإحسان إلى اليوم. وقد ظل الشيخ على عبدالرازق منبوذًا محرومًا من كل المناصب إلى أن أعاد إليه المَلك فاروق اعتباره وعيَّنه بعد ذلك وزيرًا للأوقاف ما بين 26 ديسمبر عام 1948 و 25 يوليو عام 1949، كما شغل عضوية مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وعُيَّن عضوًا فى مجمع اللغة العربية إلى أن توفى فى سبتمبر عام 1966. وكانت جريمة على عبدالرازق الأساسية فى كتابه: «الإسلام وأصول الحكم»، أنه دعا إلى فصل الدين عن الدولة، وأثبت بالشرع وصحيح الدين، عدم وجود دليل على شكل معين للدولة فى الإسلام، ذلك لأن الله - سبحانه وتعالى - ترك الحرية للمسلمين فى إقامة هيكل الدولة الذى يتناسب مع أحوالهم وأوضاعهم. وكانت خطورة الكتاب هى رأيه فى الخلافة بعد سقوط الخلافة العثمانية مباشرة وبداية الدولة الأتاتوركية العلمانية بطبيعتها العسكرية، فى وقت كانت تطوف أحلام الحصول على لقب «الخليفة» بمخيلات ملوك العرب، ولذلك لم يكن من المستغرب أن يُسارع فقهاء السلطان بالرد على كتاب على عبدالرازق، ومن أهمهم الشيخ محمد الخضر حسين الذى ألَّف كتابه: «نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم». وكان هذا الكتاب أحد مبررات وصول الشيخ محمد الخضر حسين إلى منصب شيخ الأزهر. أما الاختبار الآخر والأقوى لمبادئ الدولة المدنية التى جسَّدها دستور 1923، فيما يمس حرية الرأى وحق الاختلاف، فقد حدث بعد عودة دستور 1923 إلى ممارسة حضوره النيابى، بعد انفراج أزمة الإطاحة بالحكومة الدستورية الأولى للوفد. وكان ذلك حين أصدر طه حسين المُدرِّس بالجامعة المصرية، إحدى مؤسسات المجتمع المدنى التعليمية المستقلة، كتابه: «فى الشعر الجاهلى» (عام 1926) فانهالت بلاغات الإدانة على النائب العمومى باتهام صاحب الكتاب بإهانة الدين الإسلامى الذى نص الدستور على أنه دين الدولة. وكان أهم هذه البلاغات بلاغ من الشيخ خليل حسنين، الطالب بالقسم العالى بالأزهر، يتهم فيه الكتاب بالطعن الصريح فى القرآن الكريم، وبلاغ من فضيلة شيخ الجامع الأزهر، مع تقرير رفعه علماء الجامع الأزهر إليه، يطلب اتخاذ الوسائل القانونية الناجعة ضد الطعن على دين الدولة الرسمى، وتقديم المؤلِّف للمحاكمة، وبلاغ من حضرة عبدالحميد البنان عضو مجلس النواب. واحتدمت المناقشة فى مجلس النواب، وكان من الطبيعى أن يدافع نواب الوفد عن حرية التفكير التى نص عليها الدستور، كما نص على أن حرية الاعتقاد مُطلقة. وانتهى مجلس النواب، بعد نقاش مُسهِب وحاد إلى تحويل الشكاوى المُقدمة فى الكِتاب إلى النيابة العامة. ولقد تولى محمد نور رئيس نيابة مصر المحروسة، التحقيق فى البلاغات المُقدَّمة، والنظر فى الموضوع، وانتهى إلى حفظ الأوراق إداريًّا، وتبرئة طه حسين من التهم التى نسبتها إليه البلاغات، بعد أن تأكد له أن غرض المؤلف لم يكن الطعن والتعدى على الدين، بل الاجتهاد فى البحث العلمى، مما يؤكد عدم توفر القصد الجنائى، وذلك إعمال لنصوص دستور 1923 التى أكدت المادة الثانية عشرة منه «أن حرية الاعتقاد مُطلقة»، ونصت المادة الرابعة عشرة على أن حرية الرأى مكفولة ولكل إنسان الإعراب عن فكره بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير. ولم يجد رئيس النيابة تعارضًا بين هاتين المادتين والمادة التى تنص على أن الإسلام دين الدولة، فقد أدرك رئيس نيابة مصر المحروسة أن دستور الدولة المدنية التى يعيش فيها يؤكد حرية الفكر، وأنه لا سبيل إلى التعلل بالدين لقمع هذه الحرية التى غدت شعارًا للمجتمع المدنى وعلامة عليه، خصوصًا أن المؤلِّف - الذى هو طه حسين - لم يكن غرضه الطعن على الدين، فيما يؤكد رئيس النيابة، فالعبارات الماسة بالدين التى أوردها طه حسين فى بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها على سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها. وبناء على هذا الفهم المستنير، والذى لا يُخالف حق الاجتهاد الذى يترتب عليه حق الخطأ، رفض رئيس النيابة كل البلاغات المُقدَّمة، ولم يستجب إلى ما طلبه شيخ الجامع الأزهر أو ما نسبه إلى طه حسين، فقد أصبح القانون فوق الجميع، وأصبح الدستور حاميًا للمواطنين من احتمالات القمع الدينى أو السياسى. ولكن موازنة رئيس نيابة مصر المحروسة بين النصوص العلمانية فى الدستور والنص الذى يُحدد دين الدولة لم تنفِ فكرة إمكان تكرار الاتهام نفسه، فى حالات أخرى، ومن ثم تسليط تهمة الخروج على الدين أو التكفير فى أحوال يتم فيها تعطيل العمل بالدستور، أو يتم فيها تفسيره بأشخاص يعادون مفهوم الدولة المدنية نفسه. وذلك احتمال أكدته العلاقة الخاصة التى استبقتها بعض نصوص الدستور بين المَلك ومؤسسات التعليم الدينى الذى ظل تحت هيمنته. غير أن ما يُخفف من سلبية الاحتمالات، فى حالة دستور 1923، أنه قد أوكل محاكمة المواطنين إلى قاضيهم الطبيعى المدنى، وأصَّل البنية العلمانية للسُّلطة القضائية التى تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وحجب عن المؤسسة الدينية (سواء كانت أزهرية إسلامية أو إكليريكية مسيحية أو غير ذلك) سلطة الحُكم على المواطنين، أو اتخاذ أى إجراء قمعى مباشر تجاههم، واستبدل بالخضوع النَّقلى التقليدى لمبدأ الإجماع، التقبل الجديد لمبدأ التنوع وحق الاختلاف، وأحلَّ التسامح المدنى محل التعصب الدينى، وجعل سلطة القاضى المدنى السُّلطة التى تعلو على كل سُلطة أخرى وتُراقبها. وحين استبدل رئيس نيابة مصر- إعمالًا للدستور- بالخوض فى النوايا الاعتقادية أو المُحاسبة عليها، احترام البحث العلمى الذى يصونه الدستور، فإنه قد استبدل سُلطة بسُلطة، ودولة بدولة، وسجَّل شهادة حاسمة على تجسيد الدستور الجديد لحضور الدولة المدنية. ولا أدل على تقييد سُلطة الملك فؤاد، وقبوله بهذا التقييد من عجزه عن تلبية رغبة مشايخ الأزهر فى الانتقام من طه حسين فيما ظنوه كفرًا وما هو بكفر، فنجا طه حسين وعاد إلى جامعته المدنية أكثر قوة، فأصدر فى عام 1927 كتابه: «فى الأدب الجاهلى» مع مقدمة جديدة، يؤكد فيها حرية التفكير العلمى، وضرورة استقلاله عن الدين والسياسة معًا، قائلًا: «الأدب فى حاجة.. إلى هذه الحرية. هو فى حاجة إلى ألا يعتبر علمًا دينيًّا ولا وسيلة دينية. وهو فى حاجة إلى أن يتحرر من التقديس. هو فى حاجة إلى أن يكون كغيره من العلوم قادرًا على أن يخضع للبحث والتحليل والشك والرفض والإنكار؛ لأن هذه الأشياء كلها هى الأشياء الخصبة حقًّا. واللغة العربية فى حاجة إلى أن تتحلل من التقديس، هى فى حاجة إلى أن تخضع لعمل الباحثين، كما تخضع المادة لتجارب العلماء. ويوم يتحرر الأدب من هذه التبعية ويوم تتحلل اللغة من هذا التقديس، يستقيم الأدب حقًّا ويزهر حقًّا ويؤتى ثمرًا قيمًا لذيذًا حقًّا. أتذكرُ القرون الوسطى حين لم يكن يباح للناس تشريح الجسم الإنسانى؛ لأنه كان مقدسًا لا ينبغى أن يُمس بما يُهينه؟ ثم أتذكرُ ماذا كان تأثير ذلك فى علوم الطب وفى فنون التصوير والتمثيل؟ أتذكر يوم أُبيح للناس أن يدرسوا جسم الإنسان بالتشريح ويُخضعوه لهذا الدرس الدقيق؟ أتذكر ماذا أحدث ذلك من الأثر فى العلوم الطبيعية وفى الفنون الطبية، وكيف نشأ عن ذلك أن استقامت فنون التصوير والتمثيل استقامة صحيحة منتجة؟ هذا بعينه شأن اللغة والأدب. لن توجد العلوم اللغوية والأدبية ولن تستقيم فنون الأدب إلا يوم تتحلل اللغة والأدب من التقديس ويُباح لنا أن نُخضعهما للبحث كما تخضع المادة لتجارب العلماء. ولكن هذه الحرية التى نطلبها للأدب لن تُنال لأننا نتمناها، فنحن نستطيع أن نتمنى، وما كان الأمل وحده منتجًا، وما كان يكفى أن تتمنى لتحقق أمانيك. إنما ننال هذه الحرية يوم نأخذها بأنفسنا لا ننتظر أن تمنحنا إياها سُلطة ما، فقد أراد الله أن تكون هذه الحرية حقًّا للعلم، وقد أراد الله أن تكون مصر بلدًا متحضرًا يتمتع بالحرية فى ظل الدستور والقانون». ولا أدل على هذه الحرية التى يتحدث عنها طه حسين من قدرة نصوص دستور 1923 على تقييد سلطة الملك فؤاد التى لم تعد مطلقة بعد الدستور، خصوصًا بعد أن حسمت القول الفصل فيها المادة (60) من الدستور، وهى المادة التى تنص على أن «توقيعات الملك فى شئون الدولة يجب لنفاذها أن يوقِّع عليها رئيس مجلس الوزراء والوزراء المختصون. هذا هو دستور 23 الذى أُعلن فى التاسع عشر من أبريل سنة 1923 فى الساعة العاشرة ليلًا، والذى لولاه ما قال طه حسين كلماته الجسورة السابقة مفتخرًا بأنه يعيش فى ظل دولة يحكمها دستور 1923 الذى لا يزال باقيًا فى الذاكرة الوطنية بوصفه أهم نتيجة سياسية لأعظم ثورة مدنية، ولم تفارق مدنيتها قط، طوال تاريخنا الحديث، وهى ثورة 1919. لمزيد من مقالات د.جابر عصفور