اللافت للانتباه أن الرَّئيس عبد الفتاح السيسى عندما ألقى أول خطابٍ له، بعد تنصيبه رئيسًا للجمهورية، أعلن أنه سيعمل على بناءِ وترسيخِ دولة مدنية ديموقراطية حديثة، ولم يتوقف عن تأكيد هذا المعنى فى خطبه اللاحقة. ............................................... وكان عددٌ من أعضاء لجنة الدستور قد أرادوا أن ينصُّوا فى الدستور على ضرورة تعريف الدولة المصرية بأنَّها دولةٌ مدنيةٌ حديثةٌ، ولكن تحالُف الأزهريين مع السلفيين أوقف هذه الرغبة ووأدها. ومع ذلك، فإن القراءة الفاحصة للدستور المصرى الأخير، تؤكد أنه دستورُ دولةٍ مدنيةٍ ديموقراطيةٍ حديثةٍ. أعنى دولة تفصل بين الدِّين ونظام الحكم، وتؤكد قيم المساواة بين المواطنين وحقوق المواطنة وضرورة استقلال الوطن ووحدة أراضيه فى الوقت نفسه. والطريف أن صديقى الدكتور محمد سليم العوَّا عندما جاء إلى هذه النقطة، وحاول مناقشة كتاب الشيخ على عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» ترك الموضوع كلَّه ولم يتعرض للحجج التى بنى عليها الشيخ على عبد الرازق كتابه، فتخلص من الموضوع بنقل الشهادة التى قدمها سكرتير سعد زغلول نفسه، زاعمًا أنَّ سعد زغلول لم يكن ليبراليًّا علمانيًّا، كما أذهب فى فهمى لمجمل مواقفه السياسية. ولى فى ذلك ملاحظات، أولاها: كان سعد زغلول ليبراليًّا بكل معنى الكلمة، وتاريخه وأفعاله وأقواله ومواقفه تؤكد ذلك على نحو لا يترك مجالا لجدل، أما كونه علمانيًّا فأنا أعنى بالعلمانية فى هذا السياق العلمانية بالمعنى اللُّغوى الذى يرد الكلمة إلى العَلْم (بفتح العين وسكون اللام)، وهو معنى يشير إلى الدنيا، الأمر الذى يعنى أن العلمانية تشير إلى الدنيوية، وهو معنى لا يفارق معنى الحديث النبوي: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»؛ فالعلمانية فى هذا السياق، وبالمعنى الذى أستخدمه فى كل كتاباتى ليست نقيض الدِّين، كما يتوهم بعض الذين تنطوى نفوسهم على إِحَن وضغائن، وإنما بالمعنى الذى يجعل منها مرادفًا للدولة المدنية التى تقوم على الفصل بين نظام الحكم والدِّين، أى بين أمور الدنيا وسياساتها وأمور الدِّين والعقيدة. وبهذا المعنى فإن سعد زغلول يظل علمانيًّا ليبراليًّا، ولا تتناقض هذه الصفة مع كونه أزهرى الأصل. أما ما رواه عنه سكرتيره من شهادة، فهى شهادة تحتمل الصدِّق أو الكذب. وأنا لا أميل إلى تصديقها؛ وحتى لو صدقت فإنه من السهل تبريرها بالخصومة السياسية التى كانت على أشدها بين حزب الوفد (الأغلبية) الذى كان يرأسه سعد زغلول وحزب الأحرار الدستوريين (الأقلية) الذى كان يرأسه عدلى يكن، والذى كان ينتسب إليه الشيخ على عبد الرازق كبقية أفراد أسرته المستنيرة. وكان حزب الأحرار الدستوريين يتهم الوفد– دائما- بأنه يمثل ديكتاتورية الأغلبية، على نحو ما نقرأ فى مذكرات محمد حسين هيكل. ولذلك كان من الطبيعى أن يتخذ سعد زغلول موقفًا سلبيًّا– هو فى الأصل موقف سياسي- من كلٍ من كتابى على عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»، وحسين «فى الشعر الجاهلى»، وقد هاجم كلا الكتابين المجموعات المحافظة المؤثرة فى الأغلبية، والتى اتهمت الكتابين معا بالكفر والإلحاد. وإذا كان ما نسب إلى سعد زغلول– حقًّا أو باطلا- داعمًا لموقف الأزهريين من كتاب على عبد الرازق، فإن رأيه لم يكن ممثلا للعلم أو حتى لسعد زغلول العالم، وإنما لسعد زغلول الخصم السياسى الذى كان يضيق كل الضيق بما كتبه كل من على عبد الرازق وطه حسين– بالإضافة إلى هيكل- عن ديكتاتورية الأغلبية التى كان يمثلها ويجسدها فى آن. ولذلك لا أعتقد أن ما نسب إلى سعد زغلول فى حالتى «الإسلام وأصول الحكم» أو «فى الشعر الجاهلى» إلا من قبيل البلاغة السياسية التى تراعى المشاعر الدينية للأغلبية المحافظة، وليس المعنى الدينى العميق الذى لا يخلو من نزعة عقلية تؤكده ويتأكد بها. ودليل ذلك أن سعد زغلول كان مدافعًا بقوة عن الدستور، ذلك على الرغم من أنه هو شخصيًّا الذى هاجم اللجنة التى وضعت الدستور، ووصفها بأنها «لجنة الأشقياء»، لأن تشكيلها لم يضم ممثلين للوفد الذى كان يرأسه، والذى كان هو الصوت المعبر عن الأغلبية الساحقة فيما يرى. ولذلك كان من الطبيعى أن يكون سعد زغلول هو أكبر المدافعين عن الدستور المدنى، وعن الدولة المدنية الدستورية فى مواجهة تسلط الملك فؤاد (1868-1936) واستبداده. ولقد سبق أن قلت إن الملك فؤاد حاول الإطاحة بدستور 1923 وتقييده بما يؤكد ملكيته المطلقة، ويصون التحالف بين القصر الأوتوقراطى والمؤسسة الدينية الثيوقراطية. ولكن رغم ما انطوى عليه الدستور من ثغرات، قاوم دعاة الدستور الملكية والثيروقراطية بنصوصه المدنية، وحافظوا على المجتمع المدنى، فى الوقت الذى تحول فيه دستور 23 إلى أداة لتجسيد الدولة المدنية الديموقراطية العلمانية، فى وجه تسلط القصر الملكى وقمع المؤسسة الدينية التى حاولت أن تكون سلطة دينية، موازية للسلطة الباباوية فى روما. وظل دستور 23 بصفته هذه، ملاذًا للمثقفين والأحرار فى دفاعهم عن حرية الفكر، ودرعًا للمواطنين والسياسيين فى ممارسة حرياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية. ومن الواضح أن ذلك كان السبب الرئيسى فى انقضاض الملك فؤاد على هذا الدستور، وعلى الحكومة البرلمانية التى جاء بها، وعلى السياسيين الذين أكدوا المضمون المدنى للدستور وطبيعته العلمانية. ولكن قبل أن تمضى الأحداث ويؤتى دستور 23 ثماره، كانت الخلافة العثمانية تتهاوى فى طريقها إلى السقوط تحت ضربات «الكماليين»، وتمضى إلى طريقها المحتوم صوب النهاية. وكانت العلامة الواضحة لاقتراب سقوطها النهائى بموافقة الكماليين على تولية السلطان «عبد المجيد الثانى» منصب الخلافة سنة 1922 بصفته الدينية فحسب، وذلك على نحو يخلع عنه كل سلطاته الدنيوية التى انتقلت إلى الكماليين فلم يبق له سوى سلطة روحية جعلته نصف خليفة أو مجرد خليفة صورى. وهو الأمر الذى أثار ثائرة المسلمين جميعا فى كل مكان، وجعل البعض يتجرأ على أن يعلن نفسه خليفة للمسلمين، كما فعل «الشريف حسين» أمير الحجاز أو كما حدث فى الهند أو فى غيرها من الأقطار. وما يلفت الانتباه– فى هذا السياق التاريخي- أن مصر رفضت الاعتراف بأن يتولى الأمير «حسين بن على» أمير الحجاز خلافة المسلمين، الأمر الذى كان يعنى أن فكرة ترشيح الملك فؤاد خطرت على أذهان الأزهريين، نوعا من التعصب لوطنهم، أو نوعا من المجاملة للملك الذى يعتمدون عليه فى كل أمورهم، ولذلك أخذوا على عاتقهم دعوة الناس إلى مؤتمر لمناقشة شئون الخلافة، وكان ذلك فى الخامس والعشرين من مارس 1923، فى وقت موازٍ للانتهاء من دستور 23، وتوجه علماء الأزهر إلى المسلمين بدعوة إلى إقامة مؤتمر يتباحث فيه علماء المسلمين فى شأن الخلافة ومصيرها، وكيفية إحيائها والعمل على الإبقاء عليها. وفى الوقت نفسه رفض أن يكون السلطان عبد المجيد الثانى خليفة للمسلمين؛ لأنه لا يملك من أمره شيئا وليس له ما ينبغى أن يكون للخليفة من مهابة وبطش وقوة، وأن الخليفة إذا بويع من جماعة إسلامية وظهر عجزه عن أن يكون إماما أو خليفة له كل القوة والسطوة، فإن الخلافة تسقط عنه. «وهذا كله مستفاد صراحة من السادة الحنفية». ويمضى البيان الذى أصدره شيخ الأزهر لدعوة الناس إلى مؤتمر الخلافة قائلا: «ولما كان مركز الخلافة فى نظر الدين الإسلامى ونظر المسلمين له من الأهمية ما لا يعدله شيء آخر يترتب عليه من إعلاء شأن الدين وأهله، ومن توحيد جماعة المسلمين وربطهم برباط قوى ومتين، وجب على المسلمين أن يفكروا بنظام خلافتهم وبوضع أسسه على قواعد تتفق وأحكام الدين الإسلامى، ولا تتجافى مع النظم الإسلامية التى رضيها المسلمون نظما لحكمهم... لهذه الأسباب نرى أنه لابد من عقد مؤتمر دينى إسلامى يدعى إليه ممثلو جميع الأمم الإسلامية للبت فيما يجب أن تسند إليه الخلافة الإسلامية، ويكون بمدينة القاهرة تحت رياسة شيخ الإسلام بالديار المصرية، وذلك نظرًا لمكانة مصر الممتازة بين الأمم الإسلامية، وأن يكون عقد المؤتمر فى شهر شعبان سنة 1343هجري/مارس 1925ميلادى. ولا بد لنا من إعلان الشكر لكل من أبدى غيرة دينية إسلامية فى أمر الخلافة وأظهر اهتمامًا بهذا الواجب. ونعلن كذلك شكرنا للأمم التى تدين بأديان أخرى غير الدين الإسلامى ولدول تلك الأمم على ما أظهروه إلى الآن من ابتعادهم عن التدخل فى شئون الخلافة الإسلامية، ونرجو منهم أن يلاحظوا أن مسألة الخلافة مسألة إسلامية محضة، لا يجوز أن تتعدى دائرتها ولا أن يهتم بها أحد من غير أهلها، والعالم الإسلامى جميعه يريد أن يعيش بسلام مع الأمم الأخرى، وأن يحافظ على قواعد دينه الحقة ونظمه البريئة بطبعها من روح العدوان. هذا ما رأينا من الواجب الدينى علينا إذاعته إلى العالم الإسلامى فى مختلف البقاع وإلى الأمم الأخرى ليكون الجميع على بينة من الأمر». القاهرة في: شعبان سنة 1342هجرى الموافق 25 مارس سنة 1923م، ويلى ذلك الإمضاءات. وواضح من هذه الوثيقة التى نشرتها مجلة «المنار» أن علماء الأزهر كانوا يجمعون مثل غيرهم على عدم شرعية خلافة عبد المجيد؛ لأنه لا يباشر صلاحيات هذا المنصب الخطير، ولأن فصل الدين عن الدولة معناه– فى تقدير الداعين إلى المؤتمر- زوال منصب الخلافة؛ إذ ليست مهمة الخلافة الناحية الروحية فقط، كما أراد لها جماعة الاتحاد والترقى، وإنما هى تتسع لتشمل النواحى الروحية والمادية على السواء. ولكن المؤتمر لم ينعقد بعد عام كما طالب الداعون؛ إذ انفجر الموقف على نحو غير متوقع، كما سوف أبين فيما بعد. لكن السؤال الأهم هل كان الملك فؤاد يعرف ذلك ويباركه؟ أغلب الأمر أن حماسة مشايخ الأزهر لترشيحه خليفة للمسلمين كانت مثار جدل، وأنها قد بلغته وقد حملها إليه رجاله. ولكنه– فيما يرى أحمد شفيق باشا- لم يبد حماسا لقبولها متسائلا: «كيف يقوم بحمل عبء جميع المسلمين، وحمله ثقيل فى مصر وحدها». ولكن هذه العبارة التى ذكرها أحمد شفيق باشا فى مذكراته المنشورة، والتى أعادت طبعها الهيئة المصرية العامة للكتاب، لا تعنى الرفض الصريح ولا الموافقة الصريحة، لكنها تحمل نوعا من الرفض البلاغى الذى لا يخلو من معنى الاستحسان أو التواضع الذى فهم منه شيوخ الأزهر نوعا من الإيجاب، فزادهم فهمهم حماسة لبلدهم وملكهم الذى أرادوا له أن يصبح خليفة للمسلمين. ولم لا؟. أليس الملك هو المسئول فى النهاية عن الأزهر التابع له مباشرة، كما ألح الملك فؤاد على ذلك فى صياغة دستور 23 الذى كان قد انتهت صياغته فعلا، والذى أصبح الأزهر تابعا له مباشرة وتحت رعايته، ومن ثم وصايته. ولذلك عندما أعلن الكماليون إلغاء الخلافة العثمانية سنة 1924، عاودت علماء الأزهر رغبتهم فى إعادة الخلافة إلى مصر والاستئثار بها، وأخذوا ينشطون فى مؤتمرهم الذى دعوا إليه، ويعملون بكل جد على انعقاده، خصوصا أن المملكة العربية السعودية برئاسة «عبد العزيز بن سعود» دعت إلى مؤتمر العالم الإسلامى فى السابع من يوليو 1924، وكانت تتحدث فيه باسم الدولة الراعية للإسلام، بعد أن ضمت الحجاز إلى نجد، واتخذت من مكةالمكرمة عاصمة لدولتها الإسلامية الجديدة الناهضة والواعدة. وقد راجعت أوراق هذا المؤتمر الذى كان مستشار الملك عبد العزيز بن سعود على درجة لافتة من الذكاء فى أنهم تجنبوا اسم الخلافة وجعلوا المؤتمر مؤتمرا للعالم الإسلامى فى السابع من يوليو 1924. وقد حرصوا على عقد هذا المؤتمر بعد ذلك على نحو متصل، وقد لاحظت أن مصر كانت ممثلة فى هذا المؤتمر لكن بطريقة غير رسمية، فلم يكن هناك وفد أزهرى أو حكومى حاضرا باسم مصر. وكان من المفروض أن تعمل السكرتارية الدائمة لمؤتمر الخلافة الذى كان يعده الأزهر، والذى ما كان يمكن توجيه الدعوة إليه إلا بعد موافقة الملك فؤاد ورعايته. ولكن جاءتهم قنبلة فجرت الموقف كله، فقد أصدر شيخ من مشايخ الأزهر هو الشيخ «على عبد الرازق» كتابه «الإسلام وأصول الحكم» سنة 1925، فأوقف دوى الكتاب وتوابع زلزاله كل مخططات الأزهر وأنصار الملك فؤاد والداعين لفكرة أن تنتقل الخلافة إلى مصر، وأن يكون الملك فؤاد خليفة للمسلمين، حتى وإن أبدى التمنع أمام بعض خواصه، لكنه تمنع لا يخفى الرغبة التى تنطوى عليها الرغبة التسلطية فى توسيع مجال الحكم أو حدود الاستبداد. ولكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح، فقد أصدر الشيخ على عبد الرازق كتابه؛ مدركًا أنه يخوض حربًا ضد أنصار مذهب «الحق المقدس» من مفكرى المسلمين من الشرق، لمعنى لا يختلف جذريًّا عن المعنى الذى انطوت عليه مواجهة «چون لوك»، داعية الدولة المدنية فى الغرب لخصومه، وما قام به من نقد لأفكار «توماس هوبز» وأمثاله الداعين إلى أن سلطان الملوك مقدس وحقهم سماوى. وفى شجاعة لافتة، يقرن الشيخ على عبد الرازق بين معنى «الحكم المقدس» فى الغرب ومعنى «الخلافة» فى الشرق، ويرى أن الذين جعلوا «الخلافة» ركنًا من أركان الإسلام إنما بنوا اجتهادهم على تأويل خاطئ فى فهم النصوص الدينية للإسلام؛ ف «الخلافة» ليست ركنا ولا أصلا من أصوله. وتصل الشجاعة بالشيخ إلى أن يقول معرضًا باستبداد الملك فؤاد: «إن ذلك الذى يسمى عرشًا لا يرتفع إلا على رءوس البشر، ولا يستقر إلا فوق أعناقهم. وإن ذلك الذى يسمى تاجًا لا حياة له إلا بما يأخذ من حياة البشر، ولا قوة له إلا بما يغتال من قوتهم، ولا عظمة له ولا كرامة إلا بما يسلب من عظمتهم وكرامتهم– كالليل إن طال غال الصبح بالقصر- وإن بريقه إنما هو من بريق السيوف، ولهيب الحروب».