فى دنيا السياسة... يبدو عامل الوقت دائما صاحب قيمة خاصة، وحين نتوقف أمام دولة تناقش أولوياتها فى سنواتها القادمة حسب رؤيتها ومنهجها، يكون علينا أن ننتظر لنرى ونستمع لما يحدث. هذا ما يحدث الآن فى كازاخستان التى تتوقع انتخابات رئاسية مبكرة بعد إعلان نور سلطان نزار باييف رئيس الجمهورية استقالته من منصبه وهو ما يعنى حدوث تغير من نوع جديد وإن كان جديرا بنا قبل أن تأخذنا الحسابات والتكهنات أن نعرف أن كازاخستان اعتمدت منذ استقلالها عام 1991 على الحساب المهم والدقيق للوقت، وتعبيد الطريق أمام رؤية قومية يلتف حولها الجميع. كل هذا يزيد من مساحة التساؤلات، وإن كان من الممكن أن ننظر إلى استقالة نزار باييف على أنها مجرد اعتذار عن الاستمرار تسانده أسباب صحية، ومن الممكن أن نعتبره منطق خاص بنزار باييف نفسه الذى لم يتعمد الانسحاب أو، هو فقط تغير فى الأدوار مع استمرار وجوده رئيسا لمجلس الأمن القومى الكازاخى ورئيسا لحزب نور وطن وعضويته فى المجلس الدستوري. ومن الممكن أن تكون خطوة جريئة لدفع مخاوف أكبر من حدوث تغير مفاجئ لرئيس الدولة كما حدث فى مناطق قريبة فى آسيا الوسطي. قصة منفردة ولكى نفهم هذه القصة المختلفة، علينا أن نلقى نظرة عابرة على كيان كازاخستان الجغرافى و الحضاري، فهى صاحبة أرض واسعة ممتدة فى آسيا الوسطى ترشحها للفوز بأحد المقاعد المتقدمة كواحدة من أكبر البلاد مساحة فى العالم، و أبناؤها هم فرسان الخيول الأحرار،كما يصفون أنفسهم، أصحاب التاريخ الممتد مثل سهولهم. لكن ليست هذه هى كل الحكاية، فقد أضفت عليها آسيا الوسطى خصوصيتها الثقافية والعقائدية ربما بسبب امتلاكها هذه المساحة الشاسعة لتجعلها أرض تبادل ثقافات و معارف و ديانات. وهو ما جعل من تركيبتها السكانية لوحة تحمل الكثير من الملامح و الأجناس. حملت كازاخستان وحدها أكثر من مائة وثلاثين عنصرا لتسجل تنوعا دينيا وعرقيا كان لابد فى النهاية من وضعها فى إطار واحد وهى مهمة استطاعها باييف لتصبح كازاخستان لوحة واحدة منسجمة الملامح. تجربة جديدة لكن المسألة لا تخص فقط تاريخا أو تراثا، فقد وصلت كازاخستان بالفعل إلى درجة من النضج وتداول السلطة وسيادة الدولة والكلمة لأرمان إساغالييف سفير كازاخستان بالقاهرة فى ندوة عقدت بالنادى الدبلوماسى مؤخرا بالتعاون مع مركز الحوار للدراسات السياسية والإعلامية- وتجربتها السياسية الخارجية شاهدة على اعتمادها البراجماتية ومواصلة العلاقات مع كل البلدان على أساس الاحترام المتبادل. ولهذا ستجرى الانتخابات المبكرة والأحداث تؤكد الانتقال التدريجى للسلطة بالطرق الديمقراطية و بدعم من الشعب للحفاظ على المكتسبات و الاستقرار الداخلي. سبب آخر وراء هذه الاستقالة فى رأى السفيرة سامية بيبرس مديرة إدارة حوار الحضارات بجامعة الدول العربية، فباييف ينظر له الكازيك بعد هذه السنوات على أنه زعيم استطاع فى غضون ثلاثة عقود أن يحقق مكاسب بدأت من الصعيد الوطنى والحرص على تماسك النسيج الاجتماعى لتحقيق الوفاق والرفاهة، ودعم محدودى الدخل ومنح رجال الأعمال والشركات العالمية بما يمكن أن يكون له دور فى تعزيز اقتصاد الدولة التى تضاعف فيها متوسط الدخل من خلال تقديم رؤية إستراتيجية متكاملة تؤهل كازاخستان لأن تكون واحدة من الدول الثلاثين الأكثر تقدما. وأضافت أن دوره يظهر أيضا فى ترسيم الحدود، واعتماد فكرة التكامل الاقتصادى مع دول الجوار، ووضع كازاخستان كدولة محورية فى تحقيق الوفاق الدولى من خلال مبادرات حظر التجارب النووية، ودعم الحوار بين اتباع الحضارات و الأديان، والقضايا العربية وبصفة خاصة القضية الفلسطينية وتسوية الأزمة السورية. ولهذا فقرار الاستقالة يعكس الحرص على الحفاظ على المصالح الوطنية للبلاد و عدم تعريض البلاد لأى انتكاسات سياسية، وإن ظل التساؤل حول تحولات جديدة قد تشهدها منطقة آسيا الوسطى أمرا مطروحا. ويتساءل د. أحمد طاهر مدير مركز الحوار: ما هو مستقبل العلاقات العربية مع كازاخستان و مصر على وجه الخصوص، و ما هى ضمانات التوسع فى منهج العلاقات, لأن ما يهمنا كمصريين هو استمرار كازاخستان صاحبة المكانة فى العالمين العربى والإسلامى فى سياسة المبادرات، وهل سيكون هناك اختلاف أو توقف؟ بينما تطرح د. ماجدة صالح أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة رؤيتها بقولها إن كازاخستان دولة ليس لديها رفاهة الوقت والتفكير فى الحلول التقليدية، ولها أجندتها فى المجال الاقتصادي. وهناك خطط مرت بمراحل تنموية عديدة وصلت من خلالها إلى تحقيق عدد من الإنجازات ارتبط فيها الداخل بالخارج، واستطاعت بهذا الأسلوب أن تثبت أقدامها فى المجال الإقليمي. والأفضل اليوم أن يواصل الرئيس الجديد دوره مع ثلاثة ملفات مهمة، أولها مواصلة بناء الدولة الوطنية الجديدة مع تطوير الجوانب السياسية والاقتصادية والديمقراطية والاهتمام بالمواطن وفقا لمبدأ المساواة بين الجميع، فهذا مجتمع يهدف للرفاهة وهو ما يعنى أن الدولة مع المواطن يستطيعان تحقيقها، و ليست الدولة وحدها وذلك للحفاظ على الثقة السياسية. أما الملف الثانى فيختص بالنهضة الفكرية حيث يجب دائما تأكيد الهوية والانتماء الحضاري، فلا يوجد مجتمع يخلو من المشاكل والاحتكاكات ولكن قيم التسامح والسلام تستوعب كل ذلك، فقوة الكازيك فى تنوعهم، وهناك دور للتعليم الذى يعد قدس الأقداس الذى لابد أن يلبى احتياجات الدولة. وأخيرا يأتى ثالث الملفات متعلقا بمواصلة بناء الجيش القوى والحفاظ على الشراكات الإستراتيجية. ملفات مهمة أعقبها كثير من الجدل و المناقشة بين الحاضرين حول شخصية قاسم جومارت توكاييف الاسم الذى يلمع وسط المشهد الانتخابى القادم، و التوقيت الذى اختاره باييف للاستقالة كما يقول أحمد طرابيك الباحث فى الشئون الآسيوية. وإن ظلت كازاخستان بالنسبة لنا بلدا نستوعب تاريخه فى محاولة لقراءة مستقبله، فهى بلد المصرى صاحب الأصول الكازاخية الظاهر ركن الدين أبو الفتوح بيبرس البندقدارى صاحب السيرة الشعبية التى كما يقول د.عبد الحميد يونس فى مؤلفه «الظاهر بيبرس فى الأدب الشعبي» تعد عرضا روائيا للفترة التى عاشتها الأمة العربية مع الحروب الصليبية الأخيرة التى تمت فى نهاية عهد الأيوبيين و انتهت فى مطلع حكم المماليك. و كأنما يحاول كاتب السيرة أن يجعل من بطله الظاهر بيبرس رمزا يتجمع حوله أبناء الأمة العربية تجمعا فعليا لمواجهة الغزو القادم. لقد كان الظاهر رمزا لاجتماع الكلمة وهو مبدأ لا تتنازل عنه كازاخستان، ولننتظر ونتابع المشهد فى الانتخابات القادمة.