أحيانا، ومن باب موش عاوزين وجع دماغ، ينزلق المرء منا إلى مزالق ومآزق غاية فى الخطورة سيكون لها ما لها فى المستقبل (القريب منه والبعيد). إحدى الظواهر التى انتشرت بيننا فى الآونة الأخيرة انتشار النار فى الهشيم استجلاب حكام أجانب لإدارة مباريات كرة القدم فوق مستطيلاتنا الخضراء. نفعل ذلك من باب الاستسهال وسد الذرائع غير مدركين للمخاطر المترتبة على هذا التصرف الساذج (الأرعن) .. فما المخاطر يا ترى؟ خذ عندك، أولا، إنك - وأنت تستعين بحَكَم أجنبى - إنما تصرخ بعلو الصوت فى حكامنا المحليين: يا سادة نحن فقدنا ثقتنا فيكم فعودوا إلى بيوتكم لتقشير البصل غير مأسوف عليكم (ما عادش ليكو عازه!). المشكلة هنا أن فقدان الثقة لن يكون مقصورا فقط على حكام الساحة (الملعب) بل سيمتد إلى كل مفردات اللعبة من لاعبين ومدربين وإداريين، بل ورؤساء الأندية أنفسهم، ومن ثم فأنت ودون أن تدرى تضع حجر الأساس لانهيار المنظومة كلها (ولا تنسى أن تلك المنظومة تفتح بيوت مئات الآلاف من العاملين بالحقل الكروى). ثانيا، أن فقدان الثقة هذا سينتقل لا شعوريا إلى بقية مجالات الحياة. إن الواحد منا حتما سيوسوس له شيطانه الرجيم: يا عمّنا إذا كنتم غير قادرين على إدارة مباراة لكرة القدم بأنفسكم فهل تستطيعون إدارة شئون وطن بكامله والأخذ بيده للعبور إلى المستقبل؟ علماء الاجتماع والسياسة اكتشفوا منذ مئات السنين أن الذى يبنى الأوطان هو مدى ثقة المواطن العادى فى بلده وفى قدرة هذا البلد على التطور والنماء.. فكيف سيشارك المواطن فى بناء حضارة بلد فقد الثقة فى ناسه وفى نفسه؟ الخطر الثالث، هو إيقاف سلسال التعلم والخبرة والتدريب بما يقود فى نهاية المطاف إلى تآكل واختفاء الكوادر عندك. نعم إن حكام الكرة عندنا يخطئون لكن ألا يخطىء الحكام فى دوريات الدنيا كلها؟ أليس فى دورى محمد صلاح (عفوا نقصد الدورى الإنجليزى) يرتكب الحكام أخطاءً تبلغ حد المهازل المضحكة أحيانا.. فهل انبرى الاتحاد الإنجليزى لكرة القدم فى لحظة غضب وأصدر قرارا باستجلاب حكام من ألمانيا أو إسبانيا أو إيطاليا؟ .. لا يمكن.. لماذا؟ لأن الكرامة الوطنية الإنجليزية تمنعهم من ذلك.. فما بالنا نحن نستهين بكرامتنا الوطنية إلى هذا الحد؟ الخطر الرابع، والأخطر، هو فقدان الثقة فى القانون.. وتلك، لو تدرى، بداية النهاية لأى أمة. قل لى: ماذا يمثل الحَكَم بالنسبة لمنظومة كرة القدم؟ أليس هو ممثل قانون اللعبة فى الملعب؟.. فماذا لو شوّحنا - نحن اللاعبين والإداريين والإعلاميين - فى وجهه وتطاولنا عليه بالقول والفعل.. ألست تكون فى هذه اللحظة تشوّح فى وجه القانون؟ طيب.. ألا يمتد ذلك إلى كل شىء فى حياتنا من مرور وتعليم ومستشفيات وإعلام ومال عام .. وخلافه؟ هنا قد يقول قائل: إن استدعاء الحكام الأجانب منصوص عليه فى قانون اللعبة عندنا طالما أن النادى طالب الحكم هو من سيدفع ومن ثم فلن تتكلف خزانة اتحاد الكرة شيئا.. هذا صحيح لكننا هنا نتحدث عن دلالة الأمر ومغزاه والرسالة التى ينقلها إلى العقل الجمعى للجمهور العريض .. ثم لماذا نتناسى أن هذا الحكم الأجنبى سيتقاضى أجره بالدولار.. فهل نحن دولاراتنا كثيرة إلى هذه الدرجة؟ وهناك فوق ذلك خطر خامس، وهو أن عدم الاعتماد على حكامنا المحليين (والذين منهم على فكرة حكام ممتازون على أعلى مستوى) سينقل رسالة مشئومة إلى أجيالك الشابة بأن الخوف من الاعتماد على هؤلاء الحكام راجع إلى فسادهم ومجاملتهم للأندية الكبرى على حساب الأندية الصغيرة.. فمن أدراك ألا يمتد ذلك الشعور إلى بقية أنشطتنا الداخلية كلها.. وبالتالى يتفشى إحساس كاذب بأن كل شىء لدينا فاسد؟ أليس هذا إحساسا مدمرا قاتلا لأخلاق الأمة؟ .. ألا تسمعهم فى المدرجات يهمسون بأن الأهلى والزمالك إنما يفوزان بالحُكام رغم أن كلا الفريقين يمتلكان أفضل اللاعبين بالبلد؟ إذن فأنت بإعلاء شأن الحكم المستورد على حساب حكمك المحلى إنما تساعد مروجى الفساد المغرضين على إنجاح أهدافهم الخبيثة. ويمكنك أيضا الحديث عن خطر سادس، هو أن عظيم النار من مُستصغر الشرر.. بمعنى أن عدم ضبطك لمسألة التحكيم سيمتد لعدم قدرتك على ضبط أمن الملاعب. إن الواحد من الجمهور، عندما ينظر حوله فيرى كل الحكام وقد أصبحوا أجانب، سيسأل نفسه: وكيف أحترم القائمين على أمن الملعب إن كان هؤلاء القوم غير قادرين على توفير الأمن لحكامهم؟ .. وساعتها سيختلط الحابل بالنابل فترى الصبية وقد انهمروا كالجراد على أرض الملعب وهات يا صياح وشتائم . إن ضبط عملية التحكيم بمنتهى الصرامة والحزم هو ما سيعيد الجمهور إلى مدرجاتنا الخاوية ليتابعوا المباريات بمنتهى الاحترام مثلما نشاهد فى ملاعب الدنيا .. ولا تنسى أنك مقدم على بطولة قارية سوف يتابعها العالم كله عبر الشاشات (بطولة الأمم الإفريقية) فبالله عليكم ما الرسالة التى سننقلها نحن المصريين إلى الآخرين؟ أنقول لهم إننا مجرد همج ومشاغبين أم أننا أبناء حضارة عريقة سبقنا بها الحضارات كلها؟ يا سادتنا الأفاضل.. أعيدوا لحكام الكرة (ولكل الذين يتولون مهمة التحكيم وإدارة مؤسساتنا جميعها) كرامتهم واعتبارهم وعاقبوا كل من يثبت تهاونه أو فساده أو عدم كفاءته.. وإلا فسوف نصحو ذات صباح لنجد الأجانب وقد تولوا شئون حياتنا كبيرها وصغيرها.. وساعتها لا عزاء لاستقلالك الوطنى، ولا لانتمائك القومى، ولا لإحساسك بالعزة والكرامة اللتين تغنينا بهما طويلا وسالت بسببهما فوق الوجنات دموع المنشدين والملحنين والمستمعين!. لمزيد من مقالات سمير الشحات